رئيس التحرير
عصام كامل

أحوال أهل ولاية الله


شتان ما بين أهل الله وأهل الدنيا وبين طالبي الدنيا وطالبي الآخرة.. عندما ننظر إلى ما يحدث حول العالم والصراعات القائمة والمشتعلة بين البشر في جميع أرجاء الأرض ونبحث عن السبب الرئيسي وراء كل هذه الصراعات نجد أنه حب الدنيا، والطمع الذي أعماهم عن الحق، وأنساهم أنهم ميتون ومفارقون الدنيا وراجعون إلى الله تعالى وواقفون بين يديه سبحانه ومحاسبون..


وعندما ننظر إلى أحوال أهل محبة الله تعالى وطالبي الآخرة وسر وصولهم إلى محبته عز وجل لهم نجد زهدهم في الدنيا وتورعهم فيها، ولا شك أن باب الوصول إلى الله تعالى والحظوة بمقام القرب منه سبحانه هو الزهد في الدنيا، وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله أنه قال: "ازهد ما في الدنيا يحبك الله، وازهد ما في أيدي الناس يحبك الناس"..

والزهد معناه العزوف والإعراض عن الدنيا، وأن لا يملكه شيئا منها، وأن تكون الدنيا في اليد لا في القلب. ولا يصح الزهد إلا فيما يملك، وللزهد مقامات، منها الزهد فيما حرمه الله تعالى، وهو زهد فرض وواجب على عامة المسلمين، والزهد في الحلال والمباح وهو زهد أهل الورع.

وتختلف أحوال أهل الزهد، فمنهم من يزهد في الدنيا بنعيمها الفان رغبة في الآخرة، ومنهم من يزهد في الدنيا والآخرة رغبة في الله تعالى، وهؤلاء هم صفوة الزهاد وملوك الدنيا والآخرة وهم قلة من المؤمنين.. ومن هؤلاء القليل "سيدي بهلول المجذوب" وإليك عزيزي القارئ هذه الحكاية عن زهد هذا الولي الصالح رضي الله عنه، والتي يحكيها لنا العارف بالله "مالك بن دينار".. يقول فيها رضي الله عنه..

"مررت بمقبرة فوجدت "بهلول المجنون" قاعدًا بين القبور وهو عريان إلا ما يستر العورة، فأتيت نحوه لاستفيد من طرائفه فوجدته تارة ينظر إلى السماء فيستهل، وتارة ينظر إلى الأرض فيعتبر، وتارة ينظر عن يمينه فيضحك، وتارة ينظر عن شماله فيبكي، فسلمت عليه فرد على السلام، فسألته عما رأيت من حاله فقال يا "مالك": أرفع رأسي إلى السماء فأذكر قوله تعالى.. "وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ"..

فأستهل وانظر إلى الأرض فأذكر قوله تعالى: "مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ".. فأعتبر وأنظر عن يميني فأذكر قوله تعالى: "وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ".. فأضحك وأنظر عن شمالي فأذكر قوله تعالى: "وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ".. فأبكى.

فقلت يا بهلول إنك لحكيم أتأذن لي أن أشتري لك قميص قطن، قال افعل فسارعت للسوق وأتيته بقميص قطن فنظر إليها وقلبه يمينًا وشمالًا ورمى به إلى، وقال ليس مثل هذا أريد، قلت وكيف تريده قال أريد قميصًا من الإخلاص محفوظًا من الدنس والانتقاص غرس قطنه بالحقائق، وحرس من جميع البوائق، سقاه جبريل بماء السلسبيل فأينع حسنًا وأثمر قطنًا، فلقطته أيدي الكرام البررة التالين سورة الحمد والبقرة، ثم حلجته أكف الوفاء بعز وصفاء من غير جفاء، ثم نخلته الأوتار المتصلة بالأنوار، وغزلته مغازل الحمد والثناء بالمحبة والاعتناء، جعلت الجنة لنا سجة ثوابًا، وكان هو للابسه من النار حجابًا، فهل تقدر يا ملك على مثل هذا..

فقلت إنما يقدر عليه من خصك بوصفه وألهمك لمعاينته وكشفه سبحانه. ثم قلت يا "بهلول" صفه لي لألبس هذا القميص فقال نعم إنما يلبسه من خصه الله بأنواره، وكتبه في ديوان أبراره وأحياه بالسابقة، وقواه بالعزيمة الصادقة، فجسمه بين الخلق يسعى وقلبه في الملكوت يرعي، فلا يتكلم بغير ذكر الله لفظة، ولا ينظر لغير الله لحظة، ثم صاح صيحة عظيمة وقام وهو يقول "إليك سبحانك فر الهاربون ونحوك قصد الطالبون وببابك أناخ التائبون، آه، اللهم إنّا قد وقفنا ببابك فلا تطردنا ونحن انتسبنا لجنابك فلا تحرمنا يا أرحم الراحمين"..
الجريدة الرسمية