رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

عفيفي مطر في رسالته إلى أرملته الراحلة نفيسة قنديل: متى أستريح؟!

فيتو

أوراق مبعثرة يمينا ويسارا، أدراج مفتوحة، وكراسى متناثرة، حالة من الفوضى المخيفة ضربت أركان فيلا الشاعر الراحل محمد عفيفى مطر بقرية رملة الأنجب التابعة لمركز أشمون بمحافظة المنوفية، بعدما قتلت أرملته الناقدة والروائية نفيسة قنديل صاحبة الـ73 عاما، وهي مكبلة اليدين جالسة على كرسي في صالة المنزل والدماء تغرق وجهها أمس الأول.


لحقت شمس عفيفى مطر – نفيسة قنديل- بحبيبها الذي غيبه الموت قبل 9 سنوات، منتظرة لقاءه مرة أخرى بعد رحيله، ظلت محتفظة بأوراقه ورسائله إليها حتى لحظة النهاية، تدفئها بين ضلوعها، تذكرها بأيام الحب والصبا بينهما، وأيام الوجع والحزن وغيابه خلف أسوار السجن، منتظرة عودته مرة أخرى.


ومن بين تلك الأوراق رسالة غرام بخط يد الشاعر الراحل محمد عفيفى مطر إلى زوجته نفيسة قنديل، يعبر لها فيها عن حبه لها، واصفا إياها بشمسه، وذلك قبل أن يطلب يدها من والديها ويعلن زواجه منها رسميا.

كتب يقول:
«أختى وشمسى وحبيبتى نفيسة
تحياتى وحبى الأعمق وبعد،
أتذكر الآن اليوم الأول الذي قضيناه معا متسكعين مجهدين، كنا.. كاللذين يدوران على محور واحد.
كانت دائرتانا متقاطعتين، وكنا نخشى سوء المصادفة، ونخشى أن نكون متصادمين في نقطة الالتقاء، كان كل منا متوترا مشدودا، أنت بذكائك المتوقد، وأنا أشحذ صلابتى التي تكاد تنسكب منها فطرة، كنت كالجنيه المطاردة، وكنت أتعرف على ملامحك ببطء شديد، أمر على خطوط الوجه كأنى أعيد خلقك من جديد، وأعد الشعر المتهدل، وأسمع صوتك وأشربه قطرة قطرة وإيقاعا إيقاعا..

ثم ها هو العام كاد يكتمل، ولا شك في أنك أدخلت على حياتى عذابا وسعادة جديدة، عذابا جديدا هو إحساسى الحاد بمسئوليتي الكاملة عن سعادتك وأفراحك وأحزانك، وإحساسي المتوقد بالتشهي الدائم، وصوتك والرغبة الدائمة في السفر إليك بينما تنقلنى هنا اللقمة المسمومة، وسعادة جديدة غامرة تكاد تخرجنى من جلدى، وتشعرنى بأننى أسير بواجبى المقدس في زيادة نصيب البشر من السعادة.

إن كل تجربة صادقة أو ألفة، ناجحة أو فاشلة، وكل موقف من مواقفى عاطفة خيرة أو شريرة عانيتها وكل كلمة قرأتها أو كتبتها..كل شيء كان يعلمنى في نهاية الأمر كيف أحبك، تماما كما تكون الفصول الأربعة بتقلباتها زمنا واحدا للشجرة المثمرة، ومن هنا تكون الدلالة العميقة لكلمة «الحب من أول نظرة» فهى دائما النظرة الأخيرة لا الأولى..لأنها حصيلة نظرات وحكم نهائى تأخذه النفس من بعد الفصول المتعددة ومن التفتح والخبرة بالبشر.


إن زجاجة العطر الواحدة ليست إلا عصارة عدد هائل من الأزهار تفتحت في حقول العالم، وإن الحب العظيم ليس إلا تقطيرا لأصفى الأفكار والعواطف والآمال الإنسانية والتي تتجسد في إنسان بعينه نحبه حبنا الخاص من بين جميع البشر.

أذكر من أربعة أعوام أننى كنت مسافرا من قريتنا ومعى عبد الحكم، وكنت أنت في أول العربة، وأنا في آخرها أنظر إليك بتساؤل ولهفة للحديث معك، وكانت بجانبك امرأة تحمل طفلا، وأخذت منها الطفل وحملته على ساعديك الرقيقتين بعض الوقت، قلت لعبد الحكم : أريد أن أكلم نفيسة حينما تنزل على رصيف القاهرة.

قال إن بنات قريتنا يخفن منا، ولكن نفيسة «جريئة».. بنفس التعبير، وهى تعرفك، وقد تحدثت عنك حديثا طيبا مع صلاح رزق.

حينما نزلنا سبقته ووقفت بانتظارك، حين اقتربت منى غلبنى الخوف من الخربشة، حين اختفيت عن ناظرى.. لم تغيبي عني أبدا.. ويومها نبتت في رأسى قصيدة «الوجه الهارب» وأقسم لك أن وجهك كان مجسدا في كل كلمة منها..

كثيرا ما أخاف ألا تصدقينى، ولذلك أخفف التعبير عن نفسى واجعله عاديا ومألوفا وأترك ما لا يُصدق بسهولة حتى يحين أوان التعبير عنه، ولعلى حدثتك عن هذا في لقائنا الأخير..

من بين جميع البشر، أظمأ إليك ظمأ ملتهبا قاسيا، وأتلهف عليك لهفه محمومة، وأرجو بين يديك الحياة والتفتح والخصوبة، وأرجو أن أستقبل الموت ورأسى على ركبتيك وصوتك آخر ما أحمله من زاد الأبدية..

رهيب هو الصدق يا نفيسة وفادح الثمن، لأنه أعمق ما نحمله وأشد ما نقاسيه، نعرضه في القول عرضا شائها يرقص بين التصديق والتكذيب..
قابلت قبل سفرى واحدا من ألاضيش الشعراء، جعلنا نتحدث حديثا كله زيف، وتنافس في إظهار النضال والشرف والمسئولية...إلخ

وأردت أن أعبر عن فكرة صغيرة تدور في رأسى، قلت له: إذا لم يتعلم الشعراء تواضع الشجرة والشمس والغيمة، فإن شعرهم وحياتهم لا تساوى خردلة، قلت إن على الشعراء أن يتعلموا معنى الخلق من الطبيعة، وأنم يدخلوا إلى حركة الحياة معنى يقربها من الرقص، ولو استطاعنا أن نضيف إلى حركة الفأس في يد الفلاح والمطرقة في يد العامل إيقاعا وتناسقا يدخلها إلى عالم الموسيقى فستكون خلاقه، ولن نستطيع أن نفعل ذلك بغير التواضع الشامل والحب المعذب لكل شيئ واعتبار أن العاطفة الصادقة الأصيلة التي يحملها أي إنسان لأى إنسان آخر إنما هي جزء جوهرى من سعادتنا الشخصية.. ولكن الجالسين معنا كانوا يتعجبون من هذه الكلمات ويسخرون من مثاليتها وأبشع من كل ذلك أنهم لم يكونوا يصدقون قولى أو يصدقون إيمانى وصدقى في هذا القول.

على مدار العام كنت أتحسسك تحسس الأم لطفلها المولود، فتحس في دفئه حبها وفى حياته دمها وفى شفتيه معنى وجودها..

لقد أصبحت حاضرة معى تعطيني ثراء وجودين كاملين في حياتى، تقفين بينى وبين كل شيء، وكل شيء ينفذ إلى ملونا بك ومضافا إليه طعمك وعبيرك، أصرخ كثيرا بصوت مرتفع: أنت هنا وهناك.. ألا يمكن أن يضمنا مكان واحد حتى أستريح من هذا الانقسام والخوف والظمأ!!

يا نفيسة أنا لا أفكر في أي شيء أو أفعل أي فعل أو اتخذ أي موقف إلا بك ومعك ومن خلال وجودك..

وقد تحدثنا في اللقاء الأخير حديثا متقطعا حول بعض الأمور التي لم تضح وضوحا كافيا، ومرة أخرى أقول: إن كل إحساس طيب تشعرين به حيال أي إنسان هو في نفس الوقت إحساس يضاف إلى رصيدي من السعادة، وكل موقف مشرف تتخذينه بأمانة ومسئولية هو في نفس الوقت موقف منى شخصيا، وأنت لا تعرفين ما سوف أكابده من عذاب حينما تفرض الظروف علينا انقطاعا وغيابا لسنتين كاملتين تكونين فيها في مكان بعيد، فأحرم حتى من لقائك كل شهر، ولكنى سأنتظر بغبطتي المعذبة مهما طال الوقت وابتعدت المسافة..فهل تسمحين لى بالانتظار، هل تسمحين بأن أحمل معك بعض العبء، هل تسمحين بوجود إيمانى الصلب بأنك لى وأنى لك وإننا منقسمان انقساما مؤقتا!! هل تسمحين لي يا نفيسة بالانتظار؟!.»

رحل المبدعان، ومازالت رسائل الغرام بينهما شاهدة على لحظات الفرح والحزن والألم الذي اكتوى بها قلبيهما سواء من العشق الملتهب، أو من شدة آلام السجن والفراق، تاركين لنا سجلا إبداعيا آخر يضاف إلى أعمالهما الأدبية.


Advertisements
الجريدة الرسمية