رئيس التحرير
عصام كامل

«الأربعين».. أول من بشر بالثورة على نظام مبارك.. احتضن أول شهيد لـ25 يناير.. واندلعت منه شرارة الأحداث.. «السواحلية» يرفعون راية النضال.. والتنحي يكتب نهاية الملحمة (فيديو)

فيتو

كان القلق والترقب يعمان ربوع مصر كافة، حل شتاء يناير 2011، ورياح الثورة تعبئ الأجواء، ومعها مزيج من الأمل والخوف، الشارع في فمه ماء، ولديه الكثير على نظام مبارك، وإن كان لا يعلم كيف سيتحرك، تجاربنا في الثورات أكبر من تونس، التي طردت للتو نظام «بن على» ونقلت لنا مصل الثورة.


آخر ثورة حقيقية عاشها الشعب المصري كانت منذ نحو 90 عامًا، عندما نزل الشارع نفسه ليغير الأوضاع عام 1919، وهذا التفاوت الزمني الكبير لن يسمح بنقل الخبرات الميدانية بسهولة، تمنيت لو انتقلت من مكاني هنا في السويس، أنا ميدان الأربعين، أحد أهم شواهد الإثبات في تاريخ هذا البلد على صفحات البطولة، لأفسر لكل الميادين الزميلة، كيف نتحرك، ونتواصل، ونلتف حول أبناء بلدنا، نثور برشد ورقي، ونعود للعمل سريعًا.

الثورة من هنا
لم تقتنع الميادين في مصر، بتقريري لميدان التحرير، صاحب العلامة الكاملة وزعيم الميادين في مصر، عندما أخبرته أن الثورة ستبدأ من هنا، وليس القاهرة، السجل الحافل للشعب السويسي، أنا شاهد على الكثير من تفاصيله، ومن كل ركن في أرضي، انطلق أبطال المقاومة الشعبية، يعلمون الصهاينة دروسًا حكى عنها العالم، وحفظها عن ظهر قلب، كنت وقتها أقف كما أنا الآن، وأقول للجميع هذه أرض مقاومة، ومنبع الثقافة الدائمة لكيف تكون ثائرًا، ولذا أثق الآن في انطلاق الثورة من هنا.

سألني البعض: لماذا أنت تحديدا وليس أي ميدان آخر بالسويس، ما مصدر هذه الثقة؟ قلت بحسبة بسيطة، وبذكاء التضاريس التي امتلكها، فأنا أقع في شارع الجيش الرئيسي بالسويس، وهو يربط بين 3 أحياء بالمحافظة، ولأن التاريخ يلعب دورًا في استمرار حكاياته، فتسميتي بميدان الأربعين، ينتسب إلى مسجد الأربعين، الذي يخلد اسم سيدى عبد الله الأربعين، وهو أقدم مساجد السويس، وأهم معالمها التاريخية، ومن هنا دائما يخرج السوايسة للتعبير عن رأيهم في كل شيء.

الشرارة الأولى
كما توقعت، ومن وسط ميداني، اشتعلت الشرارة الأولى لثورة 25 يناير، جميع الميادين كانت تحاول التخفيف عني، ورغم ما كانت فيه، إلا أني سهرت حتى الصباح مع الشباب، كما لو كنت إنسانا، أنظم الاعتصامات، وأحاول إرشادهم بكل الطرق، كيف يحتمون من برودة الليل، حتى لا يؤثر الطقس القاسي آنذاك على هممهم العالية، وحماسهم الملتهب، كانت الأغاني تدق في كل زاوية بأركاني، مكبرات الصوت تصدح على نحو مستمر، لم تزعجني على الإطلاق في هذه الأجواء، رغم خصوصيتي الدينية والسياسية، كان يوما استثنائيا في كل شيء.

توافدت الأعداد علي بعد وفاة الشهيد الأول، أشعل الراحل الشرارة، لاحظت إقبال السوايسة من كل الطبقات والأعمار، يأتون إلي لإبقاء رحيق الثورة في الميدان، وقبل يوم 25 يناير، الموعد الذي اتفق عليه شباب مصر للخروج رفضًا لما يجرى في مصر، فوجئت بمظاهرة كبيرة للأحزاب والقوى السياسية تأتي إلى هنا، الجميع يذكر تونس، شعار «شوفوا تونس العفية.. عملت ثورة 100 مية»، ضمن الشعارات التي أحببتها كثيرًا، الشعب التونسي عمومًا يحبه المصريون، لرقيه وتحضره، كانت الثورة التونسية ملهمة، لم تكن عملًا همجيًا، ولم تؤسس للفعل الثوري طوال الوقت.

اليوم الموعود
في اليوم الموعود، وحتى الساعة الثالثة عصرًا، استمرت الهتافات على هذا النحو، حتى بدأت أعداد قوات الشرطة تتزايد، وشكلت حائطا بشريًا، ولاحظت أن بعض الشباب، يخفف من تواجده على أرضي، وانطلقت منه بعض التشكيلات إلى ديوان عام المحافظة، فهمت الرسالة من أبناء بلدي، كان الديوان يرمز للدولة التي يعتليها مبارك، ونظام حكمه الذي دفع هؤلاء سواء بدراية، أو عدم حكمة، أو فساد، إلى ما حدث، وبدأت المناوشات تحدث بين الثوار والأمن، فهمت أن القيادات الشرطية الكبيرة، لن تسمح لهم بالخروج من أرضي، حتى لا تعم الفوضى من وجهة نظرهم، وبالطبع رأيتها أنا محاولة لتحجيم الثورة في الميدان.

كنت على تواصل مع التحرير وبقية ميادين مصر، حتى يوم الثورة المعلن، لن يكن الوضع لديهم ملتهبًا كما هو الحال عندي، موقف بعض القيادات الأمنية بتخصيصي أنا فقط للثوار، ورفضهم عدم الخروج إلى أي مكان آخر، جعل الموقف يتأزم، كنت حتى هذه اللحظة أؤكد للميادين ومعها التحرير أن الثورة ستخرج من هنا، وبدأت أستشعر أنهم ومن خلال متابعتهم أيضا، أصبحوا على ثقة أكبر في رؤيتي للأحداث.

السواحلية
السواحلية عموما، والسوايسة في القلب منهم، شعوب ثائرة بطبعها، حاولت جاهدًا الهمس في أذن القيادات، التي حاولت منع المتظاهرين من الخروج، للتعامل وفق هذه القاعدة، كانت الأوضاع يمكن السيطرة عليها قبل هذه اللحظات الصدامية، ولكن الموقف اشتعل بشكل دراماتيكي، بما جعلني أنا شخصيا غير قادر على احتواء ما يحدث في كل زاوية من ميداني.\

فجأة وجدت المتظاهرين يلجئون لفتح ثغرات يخرجون منها إلى باقي الشوارع، وتتبعهم تعزيزات أمنية من القوات، كانت نقطة التحول في الأحداث، سقوط أرغفة الخبز على عربة لبائع، ودون قصد دهس العساكر الخبز، فثار الشاب لضياع مصدر رزقه، ورغم اعتذار مدير الأمن له وتسديد ثمن الخبز الذي فسد، إلا أن صورة مدينة سيدي بوزيد التونسية، ومشهد حرق محمد بوعزيزي نفسه أمام العامة، كانت تفجر لديهم خيالًا ثوريًا لا يمكن الوقوف أمامه.

مرت لحظات توتر عصيبة، شاهدت المتظاهرين يلتقطون الحجارة من أرضي، ويرشقون القوات بها على نحو عشوائي، كان الصبية يعتبرون ما يحدث مغامرة مثيرة، فنشطوا بقوة، وربما هم من أشعلوا الموقف بالكثير من التهور، فخرجت الأوضاع عن السيطرة، وبدأت ألاحظ نوعا من الفوضى، وفجأة شعرت باختناق شديد وكأني متظاهر، بسبب قنابل الغاز المسيل للدموع التي غطت كل تفصيلة في أركاني.

اشتباك
استمر الثوار والشرطة في اشتباك عنيف طوال اليوم، ولكن شيئا ما تغير مع غروب الشمس، تدخل البعض ولاحظت هدوء الاشتباكات قليلا، ربما لاستجماع الهمة، أو يمكن للتأمل في باقي مكونات المشهد المصري، وفجأة ومع تمام الساعة السابعة مساء، عاد الشباب إلى الميدان، واشتبكوا مع القوات من جديد، ووجدت الشهيد مصطفى رجب، يسقط ويدون اسمه كأول شهداء ثورة 25 يناير، نظرت إلى الساعة لتدوين الموقف الذي أكد لي أن الثورة لن تعود إلى المخابئ، دقات الساعة كانت تشير إلى السابعة والنصف مساء.

هي اللحظة الفارقة من وجهة نظري كميدان يقف عبر الزمن، ظهور مجموعات عشوائية، والاشتباك المباشر مع قوات الشرطة، سيجعل هذا الدخان الذي يخنق المنطقة بما فيها أنا مستمر ومعه تزيد مشاعر الغضب، استخدم الأمن قنابل الغاز والرصاص المطاطى لوقف سيول الحصى والحجارة المندفع على القوات كطلقات الجحيم، وكما هو الحال في الثورات، أسفرت الاشتباكات عن سقوط شهيدين آخرين، ليصبح مجمل المتوفين 3 شهداء بحلول مساء ذلك اليوم، فخرج السوايسة إلى الشارع، بعضهم جاء إلى هنا، والبعض الآخر ذهب إلى المشرحة لتتبع الشهداء، وهناك وفي الشوارع المحيطة بها، كنت أرى المشهد من بعيد، حدث الصدام من جديد مع الشرطة المتواجدة في قلب الحدث، وفي نفس الوقت كان الشعب المصري يتابع أنباء سقوط شهداء السويس، فكانت شرارة الغضب التي حركت المتظاهرين للنزول بأعداد غير مسبوقة في التاريخ، وتحولت الأهداف من مجرد تعديلات سياسية، وإصلاحات اجتماعية، إلى مطالب واضحة بالرحيل، عبر النداء الشهير «الشعب يريد إسقاط النظام» وكان له ما أرد.

الآن، ورغم كل الذكريات التي مرت على الميدان بعد نجاح الثورة ورحيل مبارك ومن بعده مرسي الإخوان، وما حدث بسببهم من تبعات قاسية على مصر والمصريين، ستظل التفاصيل الأولى كاملة في ذهني، أرويها لأجيال السويس ما حييت.
الجريدة الرسمية