رئيس التحرير
عصام كامل

«يحيى قلاش» يكشف تداعيات قانون الصحافة ولغز التشريعات الجديدة للنقابة.. ويحذر: النتائج السلبية لن تستثني أحدا.. النقيب السابق: «الصحفيين» نتاج كفاح 50 عاما

فيتو

نحن الآن في حاجة إلى نقابتنا (نقابة الصحفيين) أكثر من أي وقت مضى، لقد أصبحت هي حائط الصد الأخير، بعد أن نال التجريف والتآكل عن عمد أو إهمال من حوائط صد أخرى، كانت تحافظ على الأدبيات والتقاليد قبل القوانين الحاكمة للمهنة.


المؤكد أنه ليس لدينا ترف البدائل، ولا يمكن أن تقبل الأجيال الحالية وصمة التفريط في هذا الكيان، الذي كافحت الأجيال السابقة من أجل قيامه وقدمت التضحيات من أجل الحفاظ عليه، ويجب ألا يحبطنا الذي يجري الآن، لأنه يظل عارضًا ومؤقتًا، وعلينا التحصن بالذاكرة وأن نعيد تذكير أنفسنا بالمعارك التي خاضتها هذه النقابة، والتضحيات التي دفعتها عن طيب خاطر قامات نقابية كبيرة، أعطت بلا حساب في سبيل الدفاع عن استقلال هذا الكيان وعن كرامة المهنة وكرامة الصحفيين، التي يحاول بعض حفظة التعليمات ومنفذي الأوامر والساهين عن دورهم النقابي تغييبها، بزعم حماية النقابة من أي مواجهة قد تدخلها في صدام! مع أنها طوال تاريخها لم تسع إلى أي مواجهة أو صدام، بل ظلت في كل المعارك التي فرضت عليها تدافع فقط عن الأهداف الحقيقية التي قامت من أجلها ولا تسمح لأحد بأن يسرق المعنى الحقيقي لوجودها.

علينا أن نتذكر أنه منذ ٧٧ عامًا، وبعد محاولات شاقة استمرت ٥٠ عامًا قبلها، انتزع الصحفيون حقهم في إنشاء كيانهم النقابي، حين صدر المرسوم الملكي رقم 10 بإنشاء نقابة الصحفيين، في ٣١ مارس عام ١٩٤١ ليمتلك الصحفيون حلمهم، ومن ثم خاضوا مشوارًا حافلًا بمواجهة التحديات حتى تحافظ النقابة على استقلالها.

لقد أدرك الصحفيون مبكرًا أن طبيعة مهنتهم لا تقوم لها قائمة إلا بالحرية، ولا تنمو ولا تزدهر إلا بمزيد من الحرية.. ودعونا نتوقف أمام جدول أعمال الاجتماعات الأولى لمجلس النقابة -فور التأسيس- حيث كانت قضية الرقابة على الصحف تشتد، بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، وتعددت حالات حبس الصحفيين، كما أدت هذه الظروف إلى تقليل عدد صفحات الجريدة اليومية إلى أربع صفحات، ما كان يهدد المحررين بالاستغناء عنهم.

وواصل المجلس اجتماعاته، ولأول مرة يسمع صوت الصحافة، تحت قبة البرلمان، للمطالبة بتخفيف الرقابة على الصحف، ومعالجة أمر حبس الصحفيين، وعدم الاستغناء عن أي محرر، مهما قل عدد صفحات الصحف، وظل أحد الهموم النقابية توفير الضمانات اللازمة للصحفي لممارسة مهنته في حرية، ورفض نقل الصحفيين إلى أعمال غير صحفية.

ووضع المجلس في السنة الثانية له أول لائحة استخدام، التي تعرف الآن بعقد العمل، وكان في مقدمة مواد هذه اللائحة تقرير مكافأة تعادل راتب شهر عن كل سنة من سنوات اشتغال الصحفي، حال انتهاء مدة خدمته، لذلك تكرس منذ اللحظات الأولى فهم أن حقوق الصحفيين جزء أصيل من حريتهم التي يجب ألا يتم المساومة أو المقايضة عليها.

ولقد احتلت قضية الحرية المساحة الكبرى من معارك النقابة فلقد تصدت -على سبيل المثال- في بداية الخمسينيات، لتعديلات طرحت على البرلمان، كان هدفها وضع قيود على الصحافة والصحفيين، والتي عرفت بتعديلات أسطفان باسيلي الذي كان ينتمي لحزب الوفد، والذي تراجع عنها تحت حدة الاعتراض وقسوة النقد، وتدخل فؤاد سراج الدين -أبرز قيادات الحزب وقتها- وطلب من باسيلي سحب مقترحاته والاعتذار للصحفيين ونقابتهم.

وبعد زيارة الرئيس السادات للقدس عام 1979 وزيادة الكتابات المعارضة من كتاب وصحفيين مصريين داخل وخارج مصر لهذه الزيارة، طالب السادات بشطب هؤلاء الصحفيين من عضوية النقابة، إلا أن كامل زهيري، وكان هو النقيب في ذلك الوقت، رفع شعار "العضوية كالجنسية"، ورفض كل الضغوط لشطب أي صحفي لأسباب سياسية، وقال إن شروط العضوية تكتسب بتوافر شروط القيد المنصوص عليها بقانون النقابة، وتنتهي فقط بفقد أحد هذه الشروط.

وفي مواجهة هذا الموقف لجأ السادات إلى مجموعة من الإجراءات للرد على ما كان يعتبره عنادًا وعصيانًا لتعليماته، ومن أبرزها قراره تحويل النقابة إلى مجرد نادٍ، ساعتها انتفض الصحفيون دفاعًا عن كيانهم النقابي، مما اضطر الرئيس السادات للتراجع، وظلت النقابة هي مظلة الحماية والكيان القانوني المدافع عن الصحفيين، وعندما جرت محاولة فرض قانون جديد للنقابة عام ١٩٩٣ يتضمن العديد من المواد الشاذة والغريبة ويهدر الضمانات الموجودة في القانون الحالي، ويجعل مدة النقيب أربع سنوات بدلًا من سنتين ويلغي التجديد النصفي لمجلس النقابة، ويسمح للإعلاميين ولغير الحاصلين على مؤهل عالٍ بالقيد بهدف إغراقها بعضوية شكلية من غير الممارسين للمهنة وتغيير تركيبة الجمعية العمومية، لتسهيل السيطرة على النقابة، ثار الصحفيون على المشروع وأطلقوا عليه "القانون اللقيط".. وفعلًا تراجع إبراهيم نافع نقيب الصحفيين في هذا التوقيت عن المشروع، بل نفى علاقته به.

ثم كانت المعركة التاريخية عام 1995، والتي امتدت لأكثر من عام، ظلت خلالها الجمعية العمومية في حال انعقاد مستمر لمواجهة القانون، الذي أطلق عليه "قانون حماية الفساد"، واستهدف وضع قيود غير مسبوقة على الحريات الصحفية، ولكن بوحدة الصحفيين ووعيهم والتفافهم حول مجلس نقابتهم الذي أخذ في ذلك الوقت المبادرة لرفض القانون، واتخذ على الفور مجموعة من الإجراءات منها الدعوة لعقد جمعية عمومية طارئة، قادت مقاومة هذا القانون الذي صدر بليل عن مجلس الشعب وفي نهاية دورته، ورفض مبارك مطلب النقابة بعدم تصديقه على القانون، وقال "إحنا مش بنبيع ترمس والقانون صدر لينفذ"، ولكن تحت تصاعد وتيرة الاحتجاجات اضطر أن يلتقي مجلس النقابة مرتين وانتصرت إرادة الصحفيين، وتم إلغاء القانون.

وعندما عقدت النقابة المؤتمر العام الرابع في فبراير ٢٠٠٣ لمناقشة أوضاع المهنة والصحفيين، وعد مبارك النقيب جلال عارف بإلغاء الحبس في قضايا النشر، ثم عندما بدأ الالتفاف على هذا الوعد، نجح مجلس النقابة في عقد الجمعية العمومية في مارس ٢٠٠٥، وتقدم النقيب مظاهرة انطلقت من النقابة إلى مجلس الشعب ورفعت مطلبين، هما إلغاء الحبس في قضايا النشر ولائحة أجور عادلة للصحفيين، مما اضطر الدولة والبرلمان للتفاوض حول الملفين.

هذه بعض مواقف من تاريخ حافل تؤكد الإدراك المبكر بأن معارك الحرية هي الأساس، وأنها المدخل الأساسي للمهنية والمصداقية التي تعتبر جسر العلاقة الحقيقية مع القارئ، وأن كثيرًا من الحقوق الأخرى فروع تمتد من هذه الشجرة.

لذلك كله من الأهمية أن نتوقف عند التداعيات الكارثية على المهنة بعد إقرار البرلمان مؤخرًا لقانون الصحافة الأخير الذي وصف بـ"قانون إعدام المهنة"، وأن نتوقف عند المحاولات التي تدبر في الخفاء لتمرير مشروع قانون جديد للنقابة في الدورة البرلمانية المقبلة بعيدًا عن الجمعية العمومية للصحفيين صاحبة الحق في الحوار والمناقشة لوضع المشروع الذي يخاطب المستقبل ويحفظ كثيرًا من الضمانات الموجودة في القانون الحالي، ويضيف لها ويحفظ أيضًا للمهنة وللصحفيين حقوقهم وكرامتهم ويستجيب لكل المتغيرات والتطورات التي جرت خلال العقود الماضية وهي كثيرة وجذرية، أي قانون يستجيب لحلمهم المؤجل والمشروع تجاه مهنتهم وليست لتحقيق الأحلام الشخصية للذين تصنعهم المواقع والكراسي، وليست أيضًا المشاريع سابقة التجهيز التي تصنع في الخفاء ثم تسقط علينا فجأة عبر أدوات السمع والطاعة لتستكمل دائرة الحصار للصحفيين والمهنة وتصل إلى محطتها الأخيرة.

كل ذلك يضع على كاهلنا مسئوليات يجب أن نستعد لها، لأن عوار التشريعات التي تستهدف الصحافة والنقابة وتداعياتها ونتائجها السلبية لن تستثني أحدًا.

لذلك فإننا الآن أحوج ما نكون إلى هذا الكيان النقابي والحفاظ عليه حتى يؤدي الدور الذي قام من أجله، كما أننا مطالبون من أجل المستقبل -وليس اجترارًا للماضي أو الحنين إليه- أن نحفظ تاريخه، وأن نبقي على ذاكرته حية حتى يستمر مظلة الحماية للمهنة، ويكون معبرًا عن إرادة الصحفيين وحدهم ويحمي القابضين منهم على الجمر من التيه والحيرة وفقدان الأمان في هذه الظروف العصيبة.
الجريدة الرسمية