رئيس التحرير
عصام كامل

المرحلة الانتقالية الاقتصادية لما بعد العولمة


تحديات مرحلة ما بعد العولمة، وماذا عن أسباب تفوق الدول عن نظرائها، وماذا يلي انهيار نظريات الاقتصاد الكلاسيكية، ومع بزوغ عالم جديد تتحكم فيه "الدول الإقليمية" والخطط الاقتصادية المتطورة وليس مفهوم القوى التقليدية وما أثر الثورة الصناعية الرابعة الذكاء الصناعي والإنترنت، وشكل القوة العظمى التي ستحكم العالم وما هي!؟


حاول المفكر "كينشي أوهمي" في كتابه (الاقتصاد العالمي المرحلة التالية) الإجابة على هذه التساؤلات وإدراك وتحليل التوقعات لمستقبل ما بعد العولمة...

دول مثل فنلندا وأيرلندا استحدثت برامج تعليمية لتأهيل الأجيال المقبلة نحو متطلبات العولمة والاندماج الاقتصادي، حيث ريادة الأعمال والابتكار والإبداع كاحتياجات الموارد البشرية بالشركات متعددة الجنسيات التي تمثل قطبا اقتصاديا عالميا.

وقد طورت دول مثل الهند والولايات المتحدة سياساتها لتوفير فرص العمل والانفتاح على الاقتصاد العالمي بعيدا عن الفكر الكلاسيكي وعن الحكم المركزي، وكان الإنترنت وتطور تكنولوجيا النقل والمواصلات معبرا تقنيا نحو تداخل الاقتصادات وتكاملها.
 
إن بروز ألمانيا كدولة لها ثقل إقليمي في أوروبا أحد أهم مراكز اتخاذ القرار جاء عقب سقوط سُوَر برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي لينهي مواثيق القوى العالمية التي تلت الحرب العالمية الثانية، حيث كانت ألمانيا دولة مهزومة ثم احتلت وكان الاتحاد السوفيتي منتصرا أيضا، وحققت اليابان معجزتها الاقتصادية ثم بروز الصين كقوة عالمية بناء على تفوق اقتصادي مؤسس على نهضة تكنولوجية وليس كقوة عسكرية.. هذه الملامح شكلت عصر العولمة.

على الرغم من أن اليابان تمثل دولة متقدمة في عصر العولمة لكنها بدأت في التقهقر بسبب اعتمادها على النظريات الاقتصادية الكلاسيكية، اليابان ملتزمة بتقديم إعانات لمزارعي الأرز، ورغم ذلك الأرز الياباني سعره يزيد بعشر أضعاف على مثيله الأسترالي، وكان المستفيد الحقيقي من الدعم هو شركات البناء والموظفين الحكوميين، وعلى الصعيد الآخر فإن المزارعين يقل عددهم، ولم يعد يعمل في الزراعة سوى العجائز.

ومن ناحية أخرى فإن توقف الإعانات لمزارعي التوت لم يضعف من صناعة الحرير اليابانية بل على العكس فإنها زادت قوة. 
وعندها قررت الحكومة اليابانية عام 2003 ضخ مائتي مليار دولار لأجل دعم الدولار وتخفيض الين، ورغم ذلك فقد استمر الدولار ضعيفا وظل الين قويا..

بل على العكس استفادت الخزينة الأمريكية، وأما دافعي الضريبة والاحتياطي الياباني فقد تعرضوا لضغوط كبيرة وقد كان اتخاذ هذه القرارات من جانب الحكومة اليابانية بناء على نظريات الاقتصاد الكلاسيكية اعتمادا على الفكر الكلاسيكي لدعم الاقتصاد في الدولة القومية من خلال زيادة التصدير، ولقد أخطأ هذا الفكر لأنه حرم المواطن من حقوقه المحمية بعملك قوية.

إن إحداثيات العولمة أثبت أن تفوق الدول لم يعد يعتمد على الموارد الطبيعية أو التصدير للدول إنما هناك عوامل أخرى نحو الازدهار الاقتصادي، ففي فنلندا وأيرلندا استطاعوا استحداث نموذج مميز رغم أن هاتين الدولتين يتميزان بقلة الموارد البشرية بسبب قلة عدد السكان ومواقعهما النائية، وقد مرت الدولتان بأزمات اقتصادية ومجاعات في تاريخها.

كانت أهم أسس الدولة القومية تاريخيا أن مواردها ونجاحها قائم على السياسات والتشريعات التي تحقق الحماية والجمارك والضرائب وتوجيه الاقتصاد والاستيراد والتصدير، لكن نحن في عصر ما بعد العولمة، فالاقتصاد يقوم على المناطق وليس على الأمم، فقد نهضت بعض الأقاليم في الصين اقتصاديا، وهناك فقر وتخلف في أقاليم أخرى، وكأن الفكر المجتمعي هو المتحكم في تحقيق التنمية الاقتصادية.

إن تحديات الثورة الصناعية الرابعة من الإنترنت والذكاء الصناعي أصبحت واقعا، فأصبحت مراقبة الحدود عملية تقنية من الطراز الأول مختلفة عن سابق عهدها، فالمُعاملات التجارية تتم عبر الإنترنت بعيدا عن السلطات، بل الأسوأ أن هناك ما يسمى الإنترنت العميق deep web يحتوي على أعمال غير شرعية ونقود إلكترونية، ونتج عن ذلك استقلالية الاقتصاد عن النظام السياسي والرقابة القانونية، بل إنه أصبح أقوى منه للأسف، وهناك مقولة شهيرة لمحمد بن راشد حاكم دبي "إذا كانت العربة هي السياسة والاقتصاد هو الحصان فيجب وضع الحصان أمام العربة"..

ولعل تحول دبي إلى مركز مالي عالمي وتمركز الشركات متعددة الجنسيات في دبي كبوابة للشرق الأوسط هو سبب رئيسي في نهضتها، رغم أنها أفقر بكثير في مواردها الطبيعية من جيرانها أثرياء البترول، وتحولت دبي إلى عاصمة اقتصادية ثم سياحية بناء على سياسات اقتصادية.

أما تجربة الصين فتتلخص في شركات حكومية الملكية تدار بفكر القطاع الخاص ومرونته من خلال شراكات مع القطاع الخاص، وبدأت عملية الدمج بعملية الهيكلة من خلال هيئة عليا الهيكلة تراقب جودة الإدارة وفاعليتها والتحول بالنظام الإداري من الصلب إلى المرن الذي يميز القطاع الخاص، خاصة في التوظيف من حيث الفصل والتعيين ووضع الحوافز والعقوبات التي تراها الإدارة مناسبة..

هذا وقد وضعت الدولة خطة لوجودها في قطاعات إستراتيجية دون غيرها مثل الطاقة والاتصالات والطيران بما تمثله من قطاعات حساسة إلى جانب وجودها في قطاعات أخرى مثل الأسمنت والحديد والسيارات والإلكترونيات.. إلى جانب تحفيز المنافسة بين المحافظات لتوجيه ٢٥٪‏ من ضرائب المبيعات و٤٠٪‏ من الضرائب لذات المحافظة بما خلق روح المسئولية لدى الموظف والمواطن نحو الاقتصاد..

وبدأت التجربة في بداية التسعينيات حيث كانت شركات القطاع العام هي مدن مترهلة بها مدارس ومستشفيات وبها ملايين العمال، وكانت تحقق خسائر بكل المقاييس، لكن الدولة خاضت معركة التأهيل والشراكات وفي بعض الأحيان اعتمدت على بيوت الخبرة الأوروبية في الرقابة على الجودة والتطوير الإداري، بما يضمن الاندماج مع الاقتصاد العالمي، من خلال مرونة النظام واستيعابه للتطور المستمر، واعتماد التكنولوجيا وعلوم الإدارة..

بل إن التوظيف والفصل والمرتبات المرنة خضع لمرونة فائقة مرتبطة بتحقيق الأرباح لدفع النمو المستمر من خلال مفاهيم التنمية الخمسة (الابتكار والتناسق الأخضر والانفتاح والتمتع المشترك).

ولعل أهم التجارب المصرية القليلة هي ملكية الحكومة المصرية من خلال الشركة المصرية للاتصالات لنسبة ٤٤٪‏ من ملكية فودافون، التي تتعامل بآليات القطاع الخاص بجدارة، وتحقق أرباحا ناشئة عن نظام إداري مرن فعال وهنا يكمن الهدف هو الاعتماد على نظم إدارية ينتهجها القطاع الخاص على أيدي خبراء واستشاريين لتحقيق استقرار لشركات الدولة الخاسرة وإعادة تأهيل الشركات.

مع عالم متعدد الأقطاب وبروز أهمية الثقل الاقتصادي فإن دور الدولة في مواجهة التحول الاقتصادي لما بعد العولمة وإدراك المتغيرات أصبح حتميا نحو المرحلة الانتقالية للعولمة.
الجريدة الرسمية