رئيس التحرير
عصام كامل

«فيتو» تكشف في تحقيق استقصائي.. «مجانين تحت الطلب».. تأجير مرضى نفسيين لارتكاب الجرائم على «عينك يا تاجر».. الفاتورة تبدأ من 500 جنيه.. ونائب المدير العلاجي بمستشفى العبا

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

شخص يهاجمك بدون أي إنذار مسبق، تخاف منه وتبتعد، يجتمع أولاد الحلال ويقولون لك «معلش أصله مجنون»، لينصرف ثم يكرر الحادثة في وسط منطقة عرفها، وأدرك المواطنون بها كيفية التعامل مع هذا «المجذوب»... مشهد يومي، ليس فيه جديد، لا لشيء إلا لأن من يتعرض له يتقبله باعتباره عادة الشوارع المصرية.


هذا ما حدث مع محرري «فيتو» في أكثر من ميدان عام، وكان السؤال من سمح لهؤلاء بالبقاء في تلك الميادين لإيذاء البشر؟.. وأين هي الدولة التي من المفترض أن تأوى هؤلاء وتوفر لهم مناخا جيدا من أجل تلقي العلاج؟

ووفقًا لآخر إحصائية صادرة عن وزارة الصحة في مارس 2017 فإن العدد الإجمالي للمرضى النفسيين المسجلين رسميًا، وصل إلى 516 ألف مريض، بينما في العام 2015 بلغ 472 ألفًا، وفى 2014 لم يتجاوز 444 ألفًا، على الجانب الآخر تشير التقديرات غير الرسمية إلى وجود 5 ملايين مصري مرضى نفسيين.

تنص المادة «45» من قانون رقم 131 لسنة 1948 من القانون المدني على أنه: «لا يكون أهلًا لمباشرة حقوقه المدنية من كان فاقدا التمييز لصغرٍ في السن أو عته أو جنون».

طرف الخيط
منشور على إحدى صفحات موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» مخصص للبحث عن المفقودين، كان انقلابًا في خط سير التحقيق إذ إن المنشور كان لسيدة مريضة نفسيا، صرفتها أحد مستشفيات الأمراض النفسية دون علم أهلها، ولم يتم العثور عليها حتى الآن.

ظاهرة أن مستشفى النفسية يصرف مريضة نفسية لم تكن مختصة فقط بالحالة التي سبق ذكرها، ففي صفحة أخرى تحمل اسم «أطفال مفقودة» تم الإعلان عن تغيب سيدة مضطربة النفسية كانت في أحد المستشفيات وتم صرفها دون علم أهلها.

تلك كانت البداية إذ إن المنشور تضمن رقما يمكن الاستعانة به في حالة العثور على تلك السيدة، لنلتقي مع أسرتها في منطقة عين شمس، وتبدأ في رواية القصة.

«سميرة خريجة كلية التجارة، تتحدث لغتين الإنجليزية والفرنسية، وأي أرقام في الرياضة تحلها في ثوان، دخلت أحد مستشفيات الأمراض النفسية، بعد إصابتها بحالة عصبية، خالاتها عاوزين ياخدوا منها الميراث، تعبوا أعصابها لحد ما دخلوها المستشفى، وبعدين بكام يوم مشوها من غير ما نعرف ولا يتصلوا بينا ومن ساعتها وإحنا بندور عليها».

بتلك الكلمات بدأ منصور محمد، زوج سميرة حديثه لـ«فيتو»، وأوضح أن زوجته كانت مريضة نفسيا منذ ما يقرب من 10 أعوام، وأنجبت فتاة واحدة، كانت مضطربة عصبيا، اعتادت على تكسير محتويات الشقة، وكانت تؤذي نفسها، ولا تدرك من حولها، لهذا اعتدنا اصطحابها للمستشفى كل عدة شهور لتلقي صدمات كهربائية، وتعود مرة أخرى للمنزل.

وأكمل: «زوجتي حينما تدخل في الحالة العصبية، تتذكر رقم هاتفي، وأقصى مضاعفات لحالتها المرضية تتمثل في ألزهايمر، وحين اصطحبناها للمستشفى في المرة الأخيرة، كانت حالتها كالمعتاد، لكن حدث عكس ما نتوقعه، فعندما ذهبت ابنتها لزيارتها لم تجدها بالمستشفى، وأبلغوها أنها غادرت دون إبلاغنا كي نتسلمها».

واختتم الرجل حديثه قائلا: «بنتي اتجوزت السنة اللي فاتت، وخلاص هتولد وخايفة تموت ومتشوفش أمها، دلوقتي هي 46 سنة وأنا بدور عليها كل شوية نفسي أشوفها، كل شوية واحد يتصل بينا يقولي إنه شافها، سافرت القليوبية والشرقية والإسكندرية دورت ومخلتش مكان ومتطلعش هي»، متمنيا العثور على زوجته في أقرب وقت.

التقطت الابنة طرف الحديث بصوت منكسر، وقالت: «لو دافعتي عن مريض بيتعامل معاملة سيئة، ممكن يدخلوكي مكانه ضمن المرضى النفسيين، بلطجة واستغلال مرضى في كل حاجة، حتى فيه مرضى منهم بلطجية ربنا يستر على اللي هيتعامل معاهم ممكن يخرجوا يعملوا جناية ويرجعوا تاني، أمي كانت بتتضرب وتتعذب، وربنا يعلم كانوا بيعملوا فيها إيه».

حالة «سميرة» لم تكن الوحيدة، فتواصلت فيتو مع 4 حالات مشابهة لحالة سميرة تم صرفها من المستشفى وهي مرضية، ولم يتم العثور عليها حتى وقت التحقيق الجاري، ويبحث عنهم ذووهم حتى الآن.

أنواع المرضى
وتنص المادة «10» من قانون الصحة النفسية رقم 71 لسنة 2009، على أن المرضى النفسيين مقسمون إلى عدة أنواع بداية من «المريض الإلزامي»، الذي يدخل المستشفى دون إرادته في حالة عدم وجود وعي أو قدرة عقلية، وهنا يتم تقييم حالته من خلال اثنين من الاختصاصيين النفسيين، فيقرران حالته إن كانت تستدعي العلاج داخل المستشفى أم لا.

والنوع الثاني من المرضى، الذي يأتي إلى المستشفى بإرادته الكاملة رغبة منه في العلاج وتحسن صحته، وهناك نوع ثالث وهم «المرضى المتهمون»، الذين يأتون إلى المستشفى عن طريق النائب العام، ليتم احتجازهم داخل المستشفى في قسم خاص بهم، لتحديد مدى قدرتهم العقلية ومسئوليتهم عن الجرائم التي يرتكبونها.

في تصريحات سابقة للدكتور رضا الغمراوى المدير السابق لمستشفى الصحة النفسية بالعباسية، يوضح رحلة «المريض النفسي» منذ دخوله المستشفى حتى خروجه منه، والتي تبدأ بفترة علاج تبدأ من 3 أسابيع إلى شهر ونصف الشهر، ويعاد الكشف لتقييم حالته.
كما أوضح أن المريض إذا استقرت حالته يستطيع ممارسة حياته بشكل طبيعي، ومن الممكن استكمال علاجه خارج المستشفى، ولكن هناك أمراضا تستغرق وقتا طويلا في علاجها، مثل مرضى الفصام، فـ30% منهم تحدث لهم النوبة مجددا، وتابع: هناك مرضى آخرون تتدهور حالتهم ولا يستجيبون للعلاج لهذا يمكثون فترة أطول داخل المستشفى، وهناك من تتحسن حالته ويصبح مؤهلا للخروج، ولكن يخشى مواجهة المجتمع لهذا يمكث في المستشفى.

المحاولة للوصول لعامل داخل أي مستشفى نفسية أشبه بالمستحيل نظرًا لحساسية المكان، بجانب خوف العاملين من نشر ما يحدث، وبعد رحلة من البحث توصلا محررا فيتو لعاملة نظافة عملت ثلاث سنوات في أحد المستشفيات النفسية الحكومية قبل أن تتركها لتقول: «كنت بشتغل في المستشفى لمدة 3 سنوات في نظافة العنابر، وسبتها من البلاوى اللى كنت بشوفها، آخرها إن المرضى كانوا بيتعدوا علينا».

وأضافت «أ. م»«فيه بلاوى كتير منها جريمة قتل حصلت من 3 شهور، واحد خرج قتل مراته بقى له أكتر من 16 سنة في المستشفى، ورجع تانى ولا كأنه عمل أي حاجة، لأنه في عداد المجانين وتقرير المريض إنه في المستشفى».

وتابعت: «لو أنتى عاوزة تنتقمى من حد ممكن تتعرفى على أي حد من جوه المستشفى، فيه مرضى ممكن تخرج وترجع في نفس اليوم في المستشفى الموضوع تجارة والفلوس تخلص أي حاجة ومستشفيات الأمراض النفسية رزق العاملين فيها كبير، المرضى ممكن يخرجوا بره المستشفى نصف يوم ويرجعوا تانى قبل الساعة 7 المغرب العنابر بتتفتح من 9 الصبح تقفل مع العشا على المغرب».

وأردفت: «فيه واحد كنت أعرفه من المستشفى هتكلم معاه، لو يقدر يحكيلك، بس أهم حاجة يكون معاكى فلوس كويسة علشان تعرفى تتكلمى معاه ولو احتجتى مصلحة من المستشفى».

لم نغلق الأبواب وظللنا في انتظار ما ستأتى به تلك السيدة حتى جاء اتصال هاتفى من «أ.م» لتخبرنا أن أحد العاملين بمستشفى نفسى بالقليوبية سيقابلنا في منطقة الكيت الكات بإمبابة، مشددة على تجهيز مبلغ مالى لإنجاز المطلوب.

الدخول لمافيا المستشفيات
“ لنا أخت في المستشفى التي تعملون فيها دخلت بعد أن عذبها زوجها وكان يضربها مرارا وتكرارًا حتى دخلت المستشفى، وكلما ذهبنا للقائها وجدناها في حالة صعبة ونريد إخراجها لبضع ساعات بجانب الانتقام من زوجها” بتلك القصة تحدثنا مع الرجل الثلاثينى الذي عرف نفسه بأنه «محمد.ف» ويعمل ضمن طاقم التمريض.

لم يأت الرجل وحده بل للدلالة على قدرته على فعل أي شيء مقابل «المصلحة» اصطحب معه أحد المرضى، وعند سؤاله كيف خرج كان جوابه كل شيء يخلص بـ«الإكرامية» ومادام وقت الخروج بعد التاسعة صباحًا وقبل السادسة مساءً وقت غلق الأبواب.

لم يكن المريض مجنونا ولم تكن العملية تحدث دون معايير، هذا ما أكده المريض حين تحدث «أنا في المستشفى من 2004، بتعالج من مرض الفصام الذهاني”، بنفصل عن الواقع وبروح في عالم تاني، لو قدامى كوباية شاى ممكن افتكرها سكينة أي حاجة هلاوس سمعية وبصرية وشكوك في أقرب الناس اللى نحوا ممكن أقتل أو أذى أي حد فيهم، فدخلت المستشفى وخدت علاج واتحسنت حالتي، من فترة للتانية ممكن تجيلى الحالة بس طول ما باخد الأدوية حالتى طبيعية ومدرك لكل اللى نحوا».

وأضاف «سيد عبد السلام» اسم مستعار، في حديثه لـ«فيتو» أنه اعتاد أن يخرج من المستشفى كل يومين لجلب احتياجاته الخاصة، ويذهب لقضاء بعض المشاوير الخاصة به، موضحا أنه يخرج من المستشفى مرتديا «الزى الملكي»، ويتم دفع مبلغ من 10 إلى 15 جنيها للممرض مقابل الإمضاء في الورق بأنه موجود داخل المستشفى في الوقت الذي يقضيه خارجها، مشيرا إلى أنه إذا ارتكب أي جريمة بالخارج فهو مسجل في الأوراق أنه داخل المستشفى، وبالتالى لا يمكن إثبات الأمر، موضحا أن المريض مادام ارتدى الزى الملكى يمكنه الخروج وقتما شاء» كما أشار إلى أن هذا الأمر لا يحدث مع جميع المرضى بل فئات موثوق فيها فقط، وقضت سنوات طويلة داخل المستشفى، لكن النقطة الأهم هي أن يؤمن الممرض نفسه أولا ثم تأمين المريض.

عدنا إلى العامل في المستشفى ليوضح أن هناك الكثير من الانتهاكات التي تحدث، موضحًا أن لكل طلب «فيزيتا» تبدأ من 500 جنيه ثم تزيد طبعا لما نريده، ما جعلنا نغلق الحديث على أمل الاتصال به مرة ثانية.

وحول خطورة تسريح المرضى النفسيين في الشارع، يرى الدكتور جمال فرويز أستاذ الطب النفسي، أن تسريح المرضى مخالف للقانون، وقد حدث مرة واحدة في السبعينيات والثمانينيات حينما قرر مستشفى العباسية إطلاق المرضى في الشارع، لرفض الأهالي استلامهم.

كما أضاف في تصريحات خاصة لـ«فيتو»، أن المريض النفسى خطر على نفسه والآخرين، فلا يمكن توقع خطوته القادمة، فمن الممكن أن يؤذى نفسه، أو يضرب ويقتل شخصا آخر وهو في غير وعيه، أو يزج بأى فرد تحت عجلات القطار أو المترو، أو حتى يمكن استغلاله من قبل الجماعات الإرهابية، ويقوم بلف جسده بحزام ناسف لتفجير منطقة ما.

اتفاق
في مستشفى نفسى آخر حكومى كانت المحاولة الثانية، ففى الجهة المقابلة لذلك المستشفى يجلس «ع.ع» و«س.أ» أمام أحد أكشاك البقالة لجلب رزقهما، بجانب متابعة الزبائن من أمام مدخل المستشفى لقضاء حاجتهما بالداخل ولكن من خلالهما.

«أؤمروا اللى انتوا عاوزينه» كان خيط الحديث الذي امتد حول إنجاز أي شيء، فكانت القصة الثانية من أن لنا صديقة تعرضت لاعتداء من قبل طليقها، ويهددها بالقتل وأننا نرغب في إخافته كى يبتعد عنها دون أن تتعرض للمساءلة القانونية، والبعض أشار لها إلى أن المرضى النفسيين لا يتم محاكمتهم، نظرا لظروفهم الصحية».

هنا رد «ع.ع» قائلا: «كل اللى تؤمرى بيه مجاب بس إحنا محتاجين نشوف زميلتك علشان نستفسر منها عن حبة معلومات، وتسيبينا يومين علشان نرد عليكى وتسيبى رقم تليفون نقدر نكلمك عليه»، والتقط طرف الحديث «س.أ» موضحا أن تلك «المصلحة» أبسط ما يكون، وقد تم تأجيرهما سابقا من قبل كثير من المواطنين الذين لا يستطيعون أخذ حقوقهم، فأعمال البلطجة بالنسبة إليهما سهلة، وإذا تم الإمساك بأحد منهما الأمر يتطلب شهادة طبية من أحد مستشفيات الأمراض النفسية» وأضاف أن الرد يجب أن يكون سريعا بجانب تجهيز مجموعة من المعلومات عن الشخص المطلوب تمثلت في: « اسمه وعنوانه وسنه ورقم تليفونه، ولو فيه أي زميل ليه تعرفيه، خط سيره بيشتغل فين، لو ليه أصحاب مقربين أولا بيحب يقعد في أنهى قهاوى أو كافيهات أو نوادي»، موضحا أن المعلومات تلك ستساعده في رسم خطة للتعامل مع الشخص المطلوب التعامل معه.

سألناه عن كيفية إخراج المريض من المستشفى فرد «ع.ع» قائلا: «مش بتاعتكم ديه بقى إحنا لينا سكتنا أهم حاجة تجيبى اللى طلبناه منك، كل اللى ليكى عندنا تسلمينا المعلومات، وإحنا بنتصرف في الباقي، وحين أصررنا على معرفة الطريقة أخبرنا أن هناك أطباء يتعاونون معهما» أما عن المبلغ المطلوب فرد «ع.ع»: «هناخد 2000 قبل التنفيذ، و5 آلاف بعد التنفيذ»، ده أقل العمليات اللى بناخد فيها، أما الشهادة الطبية فبيطلب فيها 5000 آلاف جنيه».

من جانبه قال الدكتور هشام ماجد، نائب المدير العلاجى بمستشفى العباسية للأمراض النفسية: هناك قانون يحكم خروج المريض من المستشفى، وهو قانون رقم «71» لسنة 2009، وهو قانون تمت الموافقة عليه في عهد الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، وحصل على موافقة مجلس الشعب وقتها، والقانون ينص على أن المريض إذا تحول من حالة إلزامية لحالة إرادية من حقه لو طلب الخروج من المستشفى أن يخرج، ولا يشترط إبلاغ أهله بالأمر.

وأضاف: المريض كما دخل بإرادته من حقه الخروج بإرادته، وفى المستشفى نبلغ أهل المريض من الناحية الإنسانية أن المريض سيخرج فإذا لم يأت أقاربه لاستلامه، حينها نخرجه مادامت تحسنت قواه العقلية، وبالنسبة لمجاذيب الشوارع، فالشرطة تأتى بهم ويدخلون إلى مستشفى الأمراض النفسية بوصفه مريضا إلزاميا، وحينما تتحس قواهم العقلية نخبر الشرطة بتحسنها لتتعامل معهم.

نقلًا عن العدد الورقي...
الجريدة الرسمية