رئيس التحرير
عصام كامل

مصر الفقيرة.. الاستثمار في البشر


من سالف الدهر قدمت مصر مشروع فكرة الدولة المركزية إلى الحضارة الإنسانية، وانفردت أنها أول حضارة تعلي قيم الإنسانية، والعدل، واحترام المرأة، بعيدًا عن حضارات أخرى اعتمدت على الدموية، والبطش في إرساء مقاليد الحكم، فكانت مصدر إلهام فلاسفة الإغريق في بناء قيم الحضارة الغربية، وظلت مصر سر ومصدر غموض لذات الفكر الأوروبي الحديث، بما سمي Egypt mania ليصبح عشق أسرارها هو موضة غربية، وكانت مصر قديمًا هي هبة النيل، وهي سلة غلال العالم، ورمز للسلطة والثراء والقوة الضاربة.


بعد ٧٠٠٠ سنة من تواتر الحضارات والشعوب من الشرق والغرب على مصر، فقد شعب مصر مصدر الثراء الحقيقي، ألا وهو "القيم الإنسانية، والعدل، واحترام المرأة"، وانزلقت مصادر القوة الناعمة للدولة المصرية، ألا وهي الثقافة، والاقتصاد، والدين كما صنفها المفكر الاستراتيجي "جوزيف ناي"، بل إن الميزة التي نفخر بها أن مصر بوتقة حضارات الشرق والغرب أصبحت نقمة بجلب الأسوأ ثقافيا، وحضاريا، وأصبحت مصر تعاني في دوامة لا نهائية من الانحدار ما بين الشعب والمنظومة الحكومية..

في سؤال سفسطائي.. من هو المخطئ؟!
حكومة أم شعب؟!
وهو ما طرحه الرئيس في خطابه، فانتقده المعارضون بمزايدة، وبلا نقاش موضوعي -مع احترامي للمعارضة- فمع الأزمات المتتالية التي تواجه الوطن الذي أصبح كالجريح، ويبحث عمن يضمد جراحه من العقلاء، لم نترك الاختلاف السياسي جانبا ونفكر في صالح الوطن.

عن مصر الفقيرة نتحدث.. أن التشوه الذي مَس الهوية المصرية، ومنظومة القيم، والأخلاق، وثقافة العمل، والاجتهاد، كان هو المتسبب الرئيس لتدهور حال الدولة، بل إن موظفي المنظومة الحكومية، ورجال الأعمال الطفيليين، والمتسولين، والأفاقين، والمرتزقة هم إفراز مجتمعي طبيعي لما وصفه جمال حمدان بتفشي الشخصية الفهلوية على ثقافة العمل والاجتهاد التي بنت حضارة مصر الفرعونية، وللأسف فإن ما يدور على أرض مصر هو نتاج لسياسات خاطئة لعقود وعقود، واستيراد القيم الهدامة من الشرق والغرب..

ولعل أبرز ما يجب ألا نغفله هو إفراز التطرف الخطير الذي كاد أن يدفع مصر نحو هاوية الإرهاب -لولا يد العناية الإلهية في ٣٠ يونيو- إلى ممارسات ممنهجة نشهدها يوميًا في شوارعنا، جعلت من مصر من الدول العشر الأولى في التحرش الجنسي، وتفشي ظاهرة أطفال الشوارع التي هي مؤشر لفساد مجتمعي، وقهر للإنسانية بلا دور واقعي لمؤسسات العمل المدني بما يعكس مظاهر أزمة انهيار قيم مجتمع.

وعن مصر الغنية نتحدث، بمواردها ما بين الغاز، والبترول، والذهب، ونهر النيل، والموقع الاستراتيجي في منتصف العالم، وقناة السويس بما يجعلها مؤهلة كمحطة لوجستية عالمية، إلى موروثها التاريخي، وآثارها، وشواطئها، وجبالها بما يؤهلها لتكون أهم قبلة سياحية، إلى بحيراتها الطبيعية، وطول سواحلها على البحرين بما يجعلها مؤهلة بالاكتفاء الذاتي من الثروة السمكية..

ولكن اليابان وفرنسا وألمانيا والصين لم تكن أبدًا دولا غنية بمواردها الطبيعية، وإنما بمواردها البشرية، وبعقولها المستنيرة وإبداع شبابها المتعلم، ولا يمكن التشبه بنموذج دول الخليج، لأنها دول اعتمدت على استنزاف الكنوز البترولية بلا جهد حقيقي، أو استثمار في الموارد البشرية، مما جعل هذه الثروات في مهب الريح، ولن يستمر ثراء هذه الدول لأنها لم تدرك أن البترول إلى زوال والبقاء للأذكى...

ولعل الجيش المصري هو أبرز مثال على تفوق المصريين بالموارد البشرية والعمل والالتزام وليس بالمعدات أو التعداد، مما يجعلنا نتوقف عند إحدى أهم نقاط القوة ألا وهي النظام والقيم والعقيدة الراسخة التي لا يمكن الحيد عنها، ولو طبق المصريون بصفة عامة هذه النقاط لاستطعنا مواجهة الخلل المجتمعي.

وأول طريق العلاج إدراك العلة وبلا مزايدة.. لذا نحن نحتاج إلى نهضة ثقافية يقودها قادة المجتمع والمفكرين الوطنيين وأصحاب الرؤى وقدامى المحاربين وفق خطة منهجية، من خلال قنوات الإعلام الهادف، والتربية والتعليم، لإعادة صياغة الهوية المصرية ببناء الوعي المجتمعي، وإعادة منظومة القيم والأخلاق، وإعلاء قيمة العمل..

تستلهم قيم الحضارة المصرية من العدل والإنسانية وسمو الفكر، ويجب ألا نغفل دور الإرادة السياسية الحكومية للدعم والتحفيز بأساليب متطورة، ولعل استخدام أسلوب negative reinforcement نفسيا برفع العقاب ثم بمكافأة الملتزم بدلًا من البحث المستمر عن المخطئ؛ لأن الخطأ تعدى النسب المعقولة، ثم تكريم الرموز الفاعلة، ولعل تكريم الرئيس السيسي للعاملة البسيطة "منى" هو مثال يلزم استنساخه وتكراره مجتمعيًا من أجل الإصلاح، بجعل أمثال هؤلاء رموز إعلامية كمثال أعلى لغيرها من الشباب المحبط، وليكن قهر التطرف والتحرش والغش والفساد هم أهداف يلزم قهرها بالثقافة الشعبية، قبل أن نتحدث عن القوانين والعقوبات ولعل الاستثمار في البشر، أهم من الاستثمار في الجماد والحجارة، وأهم ما يبني المناخ الجاذب للاستثمار الأجنبي هو الموارد البشرية المؤهلة لتشغيله.

ومازالت مصر غنية بالثقة فما زال العالم يرى أن اقتصاد مصر يمرض ولا يموت ولعل أهم الأدلة هو إقراض الدول لها بالمليارات وحتى المصريين يثقون في ذلك فلا ننسى مئات المليارات التي حصدتها شهادات قناة السويس وودائع ٢٠٪‏ بما يعني ثقة الجميع في الدولة لسدادها في استحقاقها فذلك يعطي دفعة للتفاؤل رغم كل المعوقات.

وعن ثروة مصر الحقيقية... ما زال هناك من الشباب الصالح والعقلاء وقدامى المحاربين والمثقفين ورجال الدين المعتدلين وأصحاب القيم في مصر يمكن أن يصيغوا دستورًا شعوبيًا نحو نهضة ثقافية للأخلاق التي انهارت وقيم العمل التي اندثرت والهوية المصرية التي تشوهت وذلك من خلال الإعلام الهادف والتعليم لنستطيع القضاء على الفقر والفساد لحسن استغلال الموارد الطبيعية وإن كنت لا أرى أن التنمية الحقيقية تعتمد على استهلاك الموارد الطبيعية وإنما بالعقول المبدعة وطاقة الشباب المنتج وقد صاغت دول نهضتها من خلال برامج نهضوية تحت مسمى "التنمية البشرية لتعديل السلوكيات"، حيث إن طاقة الدول الحقيقية تكمن في شبابها ونسائها ثم رجالها ولعل أبرز التجارب هي ما حققته اليابان وألمانيا بعد الحروب الطاحنة لبناء وعيها الوطني نحو العمل والأخلاق أيضا لا ننسى برنامج نزع النازية من ثقافة الشعب الألماني ورغم أنه برنامج سياسي بالمقام الأول فقد حقق التنمية الاقتصادية وتأسيس الدولة الناهضة القوية بعد هزيمة وانكسار وطني ولكي نحقق ذلك فلندرك أن الشعب والحكومة مسئولين معًا عن مصير الوطن ولا يوجد من هو بعيد عن المساءلة أمام التاريخ نحو إصلاح موروث فاسد.. فإن الوطن هو أمانة نستلمها من آبائنا لنسلمها لأولادنا وهو ليس ملكًا أو حكرًا لأحد وإنما هو وزنة ( أمانة ) يحاسبنا عليها الله في كيفية إصلاحها بالتعاون وبذل الذات وليس في لوم الآخرين على إتلافها... إن مصر تستحق من أبنائها ما هو أفضل.
الجريدة الرسمية