رئيس التحرير
عصام كامل

موت شجرة


غادر الجمال حياتنا.. تركنا نهبا للقبح.. ونحن بدورنا استسلمنا للتصرفات البائسة، والمعاني الشائعة، والتصرفات السيئة.. اللون الأخضر اختفى.. والأغاني الراقية رحلت.. حتى حصة الرسم في مدارسنا استغنوا عنها، أو أصبحت بمثابة حفلة تعذيب للصغار، ولم تعد لها قيمة ولا معنى.. الأطفال في الشارع والسيارة والبيت لا يسمعون سوى أغاني المهرجانات، ولا يشاهدون سوى الأفلام المضادة للآداب، أو المروجة للعنف والدماء، والبلطجة، فكيف يتذوقون الجمال، وكيف يستوعبون مفرداته.


منذ أيام شاهدت على "تويتر" مناظر لجسور و"كباري" يزينها اللون الأخضر.. مزروعة بأصناف من النباتات تسر الناظرين.. وفي الخارج، حيث الدول المتقدمة، يحتل الحفاظ على البيئة مرتبة متقدمة من اهتمامات الناس.. ويحرصون على زراعة الأرصفة، ونظافة الشوارع.. وحصة الرسم والموسيقى مقدسة.

زمان كانت "أبلة فضيلة" بحكاياتها الشائقة عن الصفات الجميلة، مثل: الصدق، والأمانة، والشجاعة، والنزاهة، والنبل.. تنشر فينا روحًا رائعة، وتشع تفاؤلا وطموحا، وحماسا.. لم نعد نعهده أو نلاحظه في النشء، ولا الكبار، هذه الأيام.

وقبل أيام قرأت مقالا لحالة راقية من بعض الدول التي تهتم بالبيئة والنبات.. حيث يقوم المشاهير، وكبار المسئولين بتبني بعض الأشجار، لدرجة إعلان الزواج بها.. كل شخص من هؤلاء يتزوج شجرة، ويقدم لها دبلة الزواج، ويستمر في العناية بها، ورعايتها.. المعنى هنا هو إدراك قيمة الحياة الحقيقية التي لم نعد نعيشها.

فجر لديّ هذه الأفكار "بوست" للدكتور محمود صقر، رئيس أكاديمية البحث العلمي، التقطته بسرعة زميلتنا النابهة سلمى كحيل، مسئولة ملف البيئة والبحث العلمي في "فيتو".. الدكتور صقر في صفحته على "فيس بوك" كان ينعي لمتابعيه وأصدقائه، وفاة شجرة معمرة على أحد أرصفة ميدان النهضة، المتاخم لحديقة الأورمان أمام جامعة القاهرة.. موضحًا أن عمال هيئة النظافة والتجميل، وبالمناسبة فهي ليست اسمًا على مسمى، قاموا بوضع هيكل أسمنتي للشجرة العجوز، ولم يرحموا سنها، ولا صحتها التي صيّرتها، بالكاد، قادرة على التنفس.. فكتموا أنفاسها، ومنعوا عنها الأكسجين.. فلفظت أنفاسها.. وماتت.. رحلت عن عالمنا مأسوفًا عليها.. هكذا أصبحنا نتعامل مع الجمال.. "قتلوها كما لو كانت مصرية"!

هل هناك أمل في أن نعود لسابق العهد مع البيئة.. والجيران.. والشارع..ووسائل المواصلات..والأغاني..واللوحات.. والبشر.. والحيوانات.. والأفلام.. والصحافة.. والإعلام.

ابتعدنا عن الجمال.. وابتعدنا عن الله.. والنتيجة هي ما نراه حولنا من إرهاب.. عنف.. فساد.. إلحاد.. تطرف.. سلسلة مترابطة من القبح.

أقترح أن نتجمع لنقيم جنازة لتشييع الشجرة التي لقيت حتفها على سور "الأورمان"، ومعها نشيع جثمان الجمال، ونبكي على البيئة، والحضارة، والرقي، والتسامح، والحب.. وكل المعاني الحلوة، التي قتلناها مع سبق الإصرار والتعمد.
الجريدة الرسمية