رئيس التحرير
عصام كامل

نون حرف شعلقة في الجو!


كُنت حريصًا على أن أتفحَّص -خفية- أصابع سائق الميكروباص، وجدتها خالية من أي دلائل على الارتباط زواج أو خطوبة، هذا ليس حُكمًا نهائيًا بالتأكيد، فكم من متزوجين أطهار اليَد علشان طهقانين من الجواز أو مخنوقين من الدبلة أو عندهم التزام شديد تجاه المُعجبات، لكن دلالة أخرى أكدت عدم إصابته بالعيب الاجتماعي القاتل؛ فقد كان مرحًا مُقبلًا على الحياة، ما يؤكد أنه بالفعل عَزَبٌ غير متزوِّج!


وسألت الرُكاب الذكور جميعًا قبل أن ينطلق بنا الميكروباص من القاهرة إلى طنطا "يا جماعة حَد فيكم زعلان من حاجة؟ بالبلدى كدة فيه حَد متخانق مع المدام ع الصُبح، أو بينه وبين طليقته مشكلات؟ أرجوكم يا جماعة عاوزين نطلع بالسلامة على طنطا، مش فجأة نلاقى نفسينا في الصالحية أو بنى سويف علشان واحد ومراته مختلفين على مكان مَصّيَف الأسرة السنة دى، وبعدين أكيد محدش يرضى إن مصالحه تتعطَّل ويلاقى نفسه في بلد مش عايز يروحه لمُجرَّد إن حماة واحد ميعرفوش معجبتهاش هدية عيد الأم بتاعة السنة دى رغم إنه دافع فيها دم قلبه!"

فلم يكُن هُناك من حديث للجميع في تلك اللحظات إلا حول طائرة مصر للطيران التي تسببت خلافات زوجية بين واحد ومراته في أنه يخطفها من برج العرب إلى قبرص، مُتسببًا في لغط شعبى ودولى مُعقَّد بأحداثه وآثاره المتوقعة وغير المتوقعة، بالإضافة لجبال المُزايدات التي لا يتوصَّى بيها كُل التيارات السياسية في بلدنا؛ حيث منح الحادث (اللى هو لم يحدُث أصلًا) المجال للفتايين والمركونين على الرَف في انتظار فُرصة الظهور علشان التنظير والمريسة والتشدُّق بكلمات بعضها مفهوم ومُعظمها فارغ، مع الشجب والإدانة والاستنكار بسبب إجراءات الأمن، وسعر الدولار، ورياح الخماسين التي تركتها الدولة على حالها ولم تتدخَّل لتنميتها وتحويلها لرياح السداسين أو السباعين!

واحد ينُط من على تويتر لينتقد إهمال الدولة في عقد الصُلح بين الخاطف ومراته، وواحد تانى يجرى يجتمع بالسفير الإنجليزى كالعادة علشان يُطالب بالعفو عن جماعته دون أن ينسى التقاط الصور التذكارية ونشرها على صفحة حزبه الطرى على الفيس، ولازم الصور تُبرز أستك شراب حضرته بما لا يدع مجالًا للشك في كونه مهمومًا بقضايا الوطن، والتالت يطرح بديل جوى أو بديل برمائى أو سياسي مش فاكر، ويستغلَّها فُرصة علشان يُطالب بانتخابات رئاسية مُبكرة لأن المركز الثالث وَحَشه!

أما الرابع فسيُلقى خطابًا من الليمان باعتباره -هئ- رئيسًا شرعيًا للبلاد، يُطالب فيه بالحفاظ على أرواح الخاطفين والمخطوفين، والخامس سيُقدم مُبادرات للصُلح بين الدولة وبين المدام المقموصة من جوزها، مُطالبًا الحكومة بتعيين وفد رسمى دبلوماسى يشيل الورد يقيد الشمع يا حبيبى ليُقدِّم لها اعتذارًا رسميًا من الدولة، فيضرب عصفورين بحجر حسب مُبادرته الناصحة؛ يضمن لنا عدم اختطاف طائرات جديدة بعد تعميم المنهج بأن الدولة تتأسف وتعتذر لكُل واحدة زعلانة من جوزها، ويضمن لنفسه دُفعة أموال جديدة لكيلا يضطر لمد يديه والحصول على مصروفه من المدام!

والدرس المُستفاد أنك لابُد أن تفتش دائمًا عن المرأة، أو كما يقول إخواننا الفرنساويون في عبارة منسوبة لـ(نابليون) Cherchez la femme "يعنى فتِّش عن المرأة"، ولأنه زي ما فيه خلف كُل راجل عظيم امرأة، فخلف كُل خاطف طائرة ومعلَّق الناس في الجو بين البلاد واحدة من ذوات نون النسوة، ولو استمرينا في التفتيش عن المرأة فسنجد أنها مُمكن تكون السبب في اعتزال واحد الحياة واكتفائه بالجلوس الدائم على تويتر، أو إنها مش بتكوى البنطلونات كويس علشان كدة أستك الشراب دايمًا باين من تحتها، أو حتى بتصرف على جوزها فتضطره لأنه يبيع قضية وطنه علشان يرُد لها بعض الجمايل، ويقدر في يوم يعزمها في مطعم بيتزا أو كباب على حسابه!

بعد المسير بدقائق، وأثناء الرقابة الصارمة التي فرضتها على الرُكاب لمُلاحظة أي تغيير طارئ في سلوكهم ما قد يؤدي لوصولنا إلى الدار البيضاء أو الدار الآخرة بدلًا من طنطا، تركزت عيناى بشكل خبير على وجه أحدهم وهو يتحدث في هاتفه المحمول وببعض المجهود في التقاط كلمات المُكالمة ببراعة فشر براعة (عبد الرحيم على) في تنفيذ تلك العملية، فوجئت بمشروع خناقة بينه وبين زوجته؛ وعرفت إنها متصلة علشان تطلُب لحمة وفراخ وسمك وديك رومي وجمبري وكافيار وشامبنيون علشان حماته جاية عندهم تتغدى فجأة!

كان يقول لها بحسرة إننا في آخر الشهر، وإنه لم يتقاض راتبه بعد، ومن الواضح أنها وجهت له العبارة التاريخية التي تتفوَّق في تأثيرها على عبارة "حتى أنت يا بروتوس" الشهيرة لـ(يوليوس قيصر) عندما قالت له "اتصرَّف مليش دعوة إنت عايز تعرِّنى قُدَّام أمى؟!"، وألقى نظرة لم تغب عن عينى على مؤشر البنزين أمام السائق، ومن الواضح أن الكُل صار خبيرًا في مثل هذه الأمور بعد حادثة الطيارة إياها، أكيد عايز يطمئن إن الوقود الموجود في التانك مُمكن يوصَّلنا قبرص أو الخرطوم قبل ما يخطف الميكروباص!

هُنا كان التدخُل الحكيم من جانبى لا سيما أننا خلاص داخلين على بنها يعنى قطعنا أكثر من نصف المشوار، فقد أخرجت من جيبى كُل ما فيه من نقود عشرات وعشرينات وخمسينات حتى الجنيهات المعدنية والأنصاص والأرباع، ومنحتها له عن طيب خاطر ليشترى ما طلبته زوجته، ولأشتري في ذات الوقت حياتي وحياة الرُكاب والسائق، ومش مُهم إنى أرجع القاهرة ماشي بعد كده!
الجريدة الرسمية