رئيس التحرير
عصام كامل

التعليم.. وقيم المجتمع (2)


في مقالي السابق طرحت مقدمة عن علاقة التعليم بقيم المجتمع، وانتهيت بالانتقال من الهيكل التعليمي إلى العملية التعليمية، وفي مقالي هذا أعرض إشكالية العلاقة في قضية التعليم بين الطريقة والمضمون أو بين الشكل والمضمون، أو بين الأساليب التربوية والمادة العلمية.

وهناك فريقان تجاه تلك الإشكالية، الفريق الأول وهم التربويون؛ إذ يؤكدون على أن آفة التعليم في مصر هي عدم الاهتمام بالطرق التربوية السليمة، وعدم تطبيق أبحاث التربويين، في حين أن الفريق الثاني المهتم بنواتج وثمار العملية التعليمية في المجتمع، يؤكدون على عكس ذلك، أن ما يعاني منه التعليم هو التطبيق المفرط بالشكل وبالطريقة على حساب المضمون والجوهر، التي أدت إلى تدهور التعليم بهذا الشكل الذي يستشعره المجتمع الآن.

وأنا أرى أن نبحث المشكلة من جذورها، فهناك عهود سابقة سيطر على العملية التعليمية فيها بعض النظريات التربوية الخاطئة، ومن ثم كان تدهور التعليم، فإذا رجعنا إلى التاريخ وقمنا بالتدقيق، نجد أن التعليم ظل حتى الأربعينيات وأوائل الخمسينيات يهتم أساسا بالمضمون، ولكنه تحول بعد ذلك إلى اهتمام مفرط بالشكل وبالطريقة دون المضمون، الذي يُنتج تنمية في المجتمع في كل المجالات، ومن ثم تحولت مدارسنا إلى شكل دون مضمون، أما الاهتمام بالعلم ذاته فقد تراجع إلى الصفوف الخلفية، وربما اختفى تماما، وهو ما نتج عنه بعض الصور السلبية والسيولة الأخلاقية التي نراها الآن في المجتمع.

وفي فترات سابقة معينة ومن الحقائق المعروفة، أن بعض المسئولين عن توجيه التعليم كانوا يعلنون صراحة تلك المظاهر الخارجية للنشاط، أما مدى استيعاب الطلاب للعلم وتحصيلهم للمعلومات وقدرتهم على تحصيل المعرفة، فكان في نظرهم أمرا ثانويا، أما الآن فقد فقد التعليم الشكل والمضمون، وكانت بداية تدهور التعليم هو الخروج بوظيفة النشاط التربوي غير السليم والمصطنع وليس الحقيقي، بل كان ابتعادا عن القيم الاجتماعية الأصيلة لتتبدل بقيم اجتماعية أخرى بديلة.

والإشكالية هنا ليست انحرافا أو خطأ ينتمي إلى مجال التعليم وحده، وإنما هي جزء من انحراف أوسع بكثير يتعلق بأسلوب حياة المجتمع بوجه عام، وأقولها بصورة صريحة هذا وجه من أوجه النفاق وعدم الإحساس بالمسئولية الاجتماعية والوطنية، والاتجاه إلى (سد الخانات) بدلا من الاهتمام الجاد بالمشكلات وإيجاد حلول لها، ومن ثم فإن الظروف التي أدت بالتعليم إلى الاهتمام بالطرق والأساليب الشكلية دون المضمون، جزء لا يتجزأ من طابع عام في قيم المجتمع.

أقف عند ظاهرة أخرى من مظاهر تدهور التعليم في بلادنا، ألا وهي ظاهرة الحفظ الحرفي للمعلومات العلمية دون محاولة لهضمها أو اتخاذها وسيلة لحل المشكلات المعقدة التي يواجهها الإنسان في حياته.

فهذه الطريقة التي جعلت تلاميذنا أشبه ما يكونوا بآلات تسجيل، تفرغ ما لديها وقت الامتحان، دون أن يتبقى لديهم شيء مما عرفوه؛ لكي يستعينوا به في مواجهة المهام والقضايا المعقدة التي تزدحم بها الحياة، وهذا الطابع الغالب على أساليب التعليم في كثير من المعاهد التي تقدم تعليما دينيا ولغويا تقليديا، كان منذ عهد بعيد ولا يزال هو الحفظ عن ظهر قلب، وهذه الطريقة تندرج تحت السلطة المطلقة للنص، دون إعادة تجديد الفكر وإعمال العقل، ولكن اللحظة التاريخية التي نعيشها تتطلب إعمال العقل وإعطاء القدرة العقلية للطلاب على الإبداع والابتكار والتفكير، في ظل وضع آليات حديثة ومتطورة تراعي الشكل والمضمون، لتكون العملية التعليمية ثمارها تنمية الإنسان والمجتمع، واستعادة قيمنا الدفينة التي تحملها الهوية المصرية الأصيلة.

ولنعرض آلية التطوير والتحديث في مقالنا القادم إن شاء الله..
الجريدة الرسمية