«الأزبكية» يا سور ما يهزك ريح.. عبد الناصر أصدر قرارًا بترخيص أكشاك لباعة الكتب.. ثورة يناير زادت من إقبال الشباب على كتب السياسة.. و"سر المعبد" و"باب الخروج" الأكثر مبيعًا
«على أرض مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء».. كلمات أطلقها الرائع صلاح جاهين.. وهذا التاريخ وجد نفسه محفوظًا بين أحضان «سور الأزبكية».. روايات وكتب وقواميس ومجلات وصحف تستعيد سنوات مضت وهي تعانق أخشاب «الأرابيسك» التي تشكل جسد عشرات المكتبات.
«من الإبرة للصاروخ».. أقل توصيف يمكن الحديث به عن جرعات الكتب المتنوعة التي يقدمها باعة سور الأزبكية بأسعار محدودة في متناول الجميع، ورغم حركة التنقلات التي اجتاحت مكتبات السور، فإنه حافظ على وجوده على مدى «107 سنوات» تمثل عمر سور الأزبكية.
«عندك رواية 1919.. بكام كتاب مبارك وزمانه؟.. فين كتب التنمية البشرية».. أصوات تتعالى من صاحب كشك لآخر: «بقولك إيه كتاب (ما بعد إسرائيل) للمسلماني عندك منه نسخة؟ يرد الآخر: آه.. يعود الأول بصوت أعلى: «طيب إرمهولي».. هذه الكلمات ستسمعها كثيرًا عند التجول بين عشرات الأشخاص الواقفين أمام تلك الكتب ما بين مُشترٍ وبائع وباحث عن التراث القديم وشعار الجميع «ثقافة الرصيف لا تموت».
«كعب داير»
«1907».. هذه الأرقام تحمل تاريخ سور الأزبكية بداية من أول بائع «شاب صعيدي» وجد ضالته في «بواقي مكتبات الفجالة من كتب» ليبدأ رحلة بيع الكتب بأسعار أقل بكثير من ثمنها بكبرى المكتبات لتتحول من مجرد «فرشة بائع» إلى جوار سور حديقة الأزبكية إلى سوق كاملة.
«سور الأزبكية» تم نقله من أكثر من مكان، وبمجموعة من «المشابك كانت تعلق الكتب على أحبال الغسيل» على سور الحديقة إلى أن أصدر الزعيم الراحل جمال عبدالناصر قرارًا بترخيص أكشاك للباعة حتى يتم عملهم بطريقة قانونية، وهذا السور الثقافي هو أقدم سور كتب عرفته مصر.
ومع إنشاء الخط الثاني لمترو الأنفاق «شبرا الخيمة - الجيزة»، تم نقل الباعة إلى منطقة الدراسة، إلا أن الباعة أنفسهم لم يهنئوا بالاستقرار على أرض الدراسة، وتحديدًا مع إعلان الحكومة آنذاك نيتها حفر نفق الأزهر، ما تسبب في نقلهم ليستقروا في نهاية المطاف إلى جوار محطة مترو العتبة، ورغم تعدد الأماكن، ظل اسم سور الأزبكية علامة من علامات التاريخ حتى إن بعض البرامج الثقافية اتخذت منه اسمًا لها.
واليوم.. وفي مساحة محدودة تمسك 132 كشكًا بموقعه داخل سور الأزبكية بمحيط مترو العتبة، منتظرًا أنواعًا مختلفة من البشر المهتمين بالقراءة والثقافة من داخل مصر وخارجها، وعلى أرفف خشبية بسيطة هناك آلاف الكتب في مختلف المجالات ما بين علم نفس وقانون وتاريخ وسياسة وموسوعات متنوعة من القديم والحديث، والتراث بداية من شمس المعارف وتاريخ الإسلام وحتى كتب التنمية البشرية.
«على كل شكل ولون»
رغم ثورة الإنترنت التي لم تترك كتابًا قديمًا أو حديثًا إلا وتم رفع نسخة إلكترونية منه على المواقع والروابط المختلفة والتي تحتضنها آلاف الروابط الإلكترونية الخاصة بالمواقع الثقافية والجروبات والصفحات، لتقدم روابط مجانية للكتب، فإن الطلب على الكتاب الورقي زاد في الفترة الأخيرة وهو ما يعد تصرفًا استغربه البعض.
وهناك من يؤمن من الباعة بأن نظرية لمس الورق له مذاق خاص، أثبتت صحتها لدى الكثيرين من المصريين، حتى مع تحول نسبة كبيرة من الكتب إلى نسخ إلكترونية، والاطلاع عليها لم يلغ «طعم الاحتفاظ بكتاب ما وقراءته مرات كثيرة».
وفي سياق ما سبق، تحدث «فرحات محمود - 50 عامًا» لـ«فيتو»، قائلا: «قضيت 30 عامًا من عمري بائعًا للكتب في الأزبكية، لكن لم تشهد مصر حركة بيع للكتب وإقبال كبير مثلما حدث بعد 25 يناير 2011».
«فرحات» أضاف: «الحال قبل 25 يناير كان الإقبال متوسطًا، وكانت أشهر الكتب التي تباع في آخر أيام نظام مبارك، كتب التاريخ وبعض من الموسوعات، بالإضافة إلى كتب اللغات حتى عام 2010، وهو العام الذي شهد إقبالًا كبيرًا على كتب التنمية البشرية، وخصوصًا كتب د. إبراهيم الفقي (الله يرحمه)، حتى إننا في شهر واحد فقط كانت معظم المكتبات تعطي الأفضلية لكتب التنمية البشرية حتى قامت الثورة».
ويضيف فرحات أنه بعد ثورة 25 يناير كانت هناك ثورة أخرى في عالم الكتب، فقد اشتد الطلب وقتها على روايات وكتب سياسية ولعل أشهر تلك الروايات التي حظيت على صيت واسع، وكانت (فتحة خير) هي رواية (عمارة يعقوبيان) لعلاء الأسواني، وأنا بعت منها في يوم واحد أكثر من 20 نسخة، رغم أن سعرها كان مرتفعًا، لكنها كانت البداية».
«ثورة يناير دفعت الشباب إلى شراء وقراءة كتب أخرى منها تاريخ الثورات ومذكرات جيفارا وغاندي ومالكوم إيكس والتغيير السلمي، فتلك الكتب لاقت رواجًا كبيرًا وطبعت منها آلاف النسخ»، بحسب «عم فرحات».
ويختتم «ذو الـ60 عامًا»، قائلا: «بمجرد وصول الإخوان للحكم، تصدرت كتب أدبيات الإخوان المبيعات، وكان الكتاب الأشهر في ذلك الوقت هو (سر المعبد) لثروت الخرباوي، والذي حقق نجاحًا وكان يطلب منا يوميًا وبالحجز في بعض الأوقات حتى زاحمه في هذا التنافس رواية (باب الخروج) التي تحصلت على موقع مميز بين الشباب».
«البحث عن الجنس والرومانسية»
«محمد سيد، صاحب كشك بسور الأزبكية» تحدث عن زاوية مختلفة في اهتمامات القراء، خصوصًا الشباب، مشيرًا إلى أنه مع تصاعد موجة الإحباط التي أصابت كثيرًا من الشباب، وجد كثيرٌ منهم خلال عامي «2012، 2013» ضالتهم في كتب الشعر والروايات وبات قليل منهم يهتم بالسياسة.
«الفيل الأزرق، فوضى الحواس، الأسود يليق بك، أحببتك أكثر مما ينبغي».. كانت هي الكتب المتصدرة واجهة أحد الأكشاك بطبعات جديدة من عدد من دور النشر.. وعند سؤال صاحب الكشك «مينا صبري»، أكد لـ«فيتو» أن العام الأخير شهد إقبالا كبيرًا على الروايات، خصوصًا «رواية الفيل الأزرق لأحمد مراد، روايات الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، والكاتبة السعودية أثير عبد الله»، وجميعها روايات اشتد عليها الطلب منذ أكثر من عام.
وفي سور الأزبكية أيضًا هناك كتب يعتبرها البعض أنها «عيب»، بينما آخرون يرونها أحد مظاهر التنوع الثقافي وهي «الكتب الجنسية»، وتحظى هذه الكتب برواج ملحوظ بعد انتشار بعض الكتب التي تتناول الثقافة الجنسية من الناحية العلمية، وما زال كتاب «ليلة الزفاف» هو المتصدر لقائمة المبيعات في الفترة الأخيرة.
وفي الآونة الأخيرة، تزايد الحديث عن نية محافظة القاهرة توفير سوق للباعة المتجولين وترحيلهم من محطات المترو، نظرًا للإشغالات التي يتسببون فيها، ومن بين هؤلاء أصحاب أكشاك سور الأزبكية، وهنا رد «عبد الله فتحي - صاحب كشك بالسور»: «المشكلة لا تخصنا.. لسنا باعة جائلين ونمتلك تصاريح وندفع ضرائب، لذلك فإن القرار لا يخصنا في شيء بل إن القرار في مصلحتنا».
«رؤية شبابية»
أما الوجوه الشابة المنتشرة بين أكشاك السور، تقلب في الكتب وتتصفح بعض أوراقها، فيقول «أحمد سيد» إنه اعتاد شراء الكتب من السور لكونه مهتمًا بتوفير الكتب على شبكات التواصل الاجتماعي، موضحًا أن الإقبال على شراء الكتب يكون له عدة أسباب منها اللغة السهلة التي تستخدم في الكتابة.
وأضاف: «قرأت كتاب (الإلياذة) ولم أفهم منه شيئًا عكس روايات أخرى حديثة مثل (الأسود يليق بك)، (فلتغفرى)، لكونها روايات تخاطب الشباب بلغة بسيطة وراقية في نفس الوقت وتقدم واقعًا ملموسًا نعيشه وتستطيع أن تعبر عن إرادتنا وفكرنا».
وتابع: «لم أفكر في شراء كتب للتراث، رغم أن الكثيرين رشحوا لنا روايات نجيب محفوظ ويوسف السباعي، ولكننا نفضل قراءة ما يكتبه الكتاب الحاليون الذين اختلفت رؤيتهم ونوعية موضوعاتهم، فنحن نرى الآن قصص رعب وفيها ألفاظ واقعية، كما يفعل بذلك الكاتب (أحمد مراد).
وتطرق إلى أنه من هواة شراء الكتب، رغم أنها موجودة لديه نسخة إلكترونية، غير أن احتفاظه بمكتبة ورقية له إحساس مختلف، فضلا عن أن الكتاب الورقي يمكن قراءته في المواصلات أو أي وقت عكس النسخة الإلكترونية التي تسبب لنا صداعًا، بسبب التركيز في أجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة وما يصاحبها من إشعاعات.
«إحباط ويأس»
وفي تعليق منه على توجه الشباب لشراء الكتب الرومانسية والشعرية، رأى الدكتور هشام بحري، أستاذ علم النفس بجامعة الأزهر، أن تباين القراء لدى عدد من هواة الكتب بين السياسة والرومانسية وكتب الإسلام السياسي «أمر طبيعي لما حدث خلال السنوات الأخيرة».
وأشار إلى أن الإقبال على الروايات الرومانسية، مؤخرًا، يعد نوعًا من الإحباط أو ربما اليأس من الشباب الذي حاول أن يفهم ما يحدث في الساحة السياسية المصرية، ولكن جاءت الكتابات كلها مخيبة، خصوصًا بعد روايتي (باب الخروج) و(سر المعبد) اللتين أظهرتا أن الطريق مسدود وهو ما جعلهم يهربون إلى عالم الرومانسية بعد إيمانهم بأنهم لن يفهموا الواقع الخفي للسياسة.
وعن إقبالهم على الكتب الحديثة بعيدًا عن القديمة، رأى أن الجيل الحالي رافض كل شيء وكل مفروض ومقدس، وبالتالي حينما نصور له أن روايات نجيب محفوظ أو كتب شمس المعارف وتاريخ الإسلام هي أمهات الكتب، سيهرب إلى آخرين يقولون لهم لسنا أنبياءً بل إننا بشر نكتب لنخطئ ونستفيد من أخطائنا، ومن ثم يكون الإقبال عليهم يتناسب مع الشباب.
