فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

داوود عبدالسيد يغادر أرض الخوف!

رحل الفنان الكبير داوود عبدالسيد، تاركا خلفه إرثا كبيرا من جواهر السينما المصرية، بداية من الصعاليك وأرض الخوف، ومرورا بأرض الأحلام ومواطن ومخبر وحرامي ورسائل البحر، وانتهاء بآخر أعماله قدرات غير عادية الذي عرض في عام 2015.

 
لم يكن داوود عبدالسيد فنانا عاديا، وكانت غالبية أعماله السينمائية تحمل توقيعه كمؤلف ومخرج في آن واحد، وهو ما يعني أن الرجل لم يكن يكتفي بتحويل نص مكتوب إلى صورة رغم مهارته في ذلك، لكنه كان يمتلك مخزونا من الأفكار والحكايات التي يصر على تقديمها برؤية معينة.. 

 

ومن بين أعماله كان الأكثر شهرة فيلم الكيت كات، المأخوذ عن رواية إبراهيم أصلان "مالك الحزين"، وربما يعود سبب الشهرة العريضة لهذا الفيلم إلى شخصية الشيخ حسني التي رسمها داوود باقتدار وأداها ببراعة محمود عبدالعزيز.


والمتأمل لمسيرة داوود عبدالسيد السينمائية يستطيع أن يكتشف مهارة لم تتوفر لكثير من المخرجين، حتى من أبناء جيله ورفاقه فيما أٌطلق عليه "تيار الواقعية الجديدة في السينما المصرية" خلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات، مثل عاطف الطيب ومحمد خان وخيري بشارة، حيث تفرد داوود عن الجميع بالقدرة على تقديم العمل الفني محملا بعدة مستويات للمشاهدة، وهي مهارة تفرد بها في الأدب الراحل العظيم نجيب محفوظ.


وتبدو هذه المهارة أكثر وضوحا في فيلم أرض الخوف، الذي يقدم مستويات متنوعة من المشاهدة سوف تختار أنت –كمشاهد– أحدها وفقا لتفكيرك ومستوى ثقافتك.
 

هذا الفيلم يصلح ليكون حدوتة تشويقية مثيرة عن ضابط شرطة يتم تكليفه بدخول العالم السري  لتجار المخدرات باعتباره واحدا منهم، بهدف اكتشاف أسرارهم وصفقاتهم والإيقاع بهم، قصة لابد أن تستحوذ على اهتمام وفضول هواة مشاهدة عالم الجريمة وخطط البوليس الذكية لاقتحام امبراطوريات الشر.

ومن هذه الحدوتة البسيطة التي لابد أنك قد شاهدت قصصا تشبهها في عشرات الأفلام العربية والأجنبية، سوف يأخذك داوود عبدالسيد من يدك – عبر بعض الإشارات والرموز البسيطة، ليكشف لك أن الموضوع أكبر من مجرد قصة بوليسية، لأن مسار القصة يصل بك إلى صراع داخلي عنيف داخل بطل الفيلم يحيى المنقبادي الذي صار اسمه يحيى أبو دبورة، بين هويته الأصلية كضابط شرطة، وحياته الجديدة المزيفة كتاجر مخدرات إلى درجة أنه هو نفسه يقع في حيرة بين الهويتين.

 
ولا تكاد تلتقط أنفاسك، وتشعر بالفخر لأنك وضعت يدك على قلب القصة الحقيقي الذي يقدمه داوود عبدالسيد في فيلمه، حتى يفاجئك الرجل بأن ثمة مستوى أكبر وأعمق مازال في انتظارك، فتكتشف أن يحيى المنقبادي هو تجسيد لقصة إبليس مصدر الشر والغواية في أرض الخوف.


ثلاث مستويات للقصة، وربما أكثر، والأجمل أن داوود عبدالسيد لا ينحاز لأي منها، وينتهي الفيلم دون أن تحسم أمرك، وهذا هو سر الصنعة، اختر المستوى الذي يناسبك ويقنعك وتفاعل مع الحكاية من زاويتك، فهناك آخرون سيختارون مستوى مختلف ويتفاعلون مع نفس الحكاية على أساسه!


ورغم هذه العبقرية ظل داوود عبدالسيد دون أن يقدم عملا لفترة طالت عن عشر سنوات، وأنا على يقين أن درج مكتبه يحوي جواهر أخرى ثمينة لم تجد طريقا للخروج، لا أعرف سببا معينا لاعتزال الرجل رغم قدرته على مواصلة العطاء، لكن يبدو لي أن المرحلة لم تكن تناسبه ولو شئنا الدقة لم يكن هو مناسبا لها!

سوف يكتب كثيرون عن داوود عبدالسيد، وسوف تحرص مهرجانات السينما على تكريم اسمه وبرامج التلفزيون لن تتوقف -لمدة أسبوعين على الأكثر- عن عرض مسيرته واستضافة النقاد لتقييم مسيرته، ثم يعود الصمت، تماما كما تظلم شاشة السينما بعد انتهاء الفيلم.. 

فهل يبادر واحد ممن نسوا أو تجاهلوا داوود عبدالسيد طوال عقد من الزمن للبحث عن مشروعاته التي حلم بها ومحاولة تنفيذها، صحيح أنها لن تحمل توقيعه كمخرج، لكن قيمته ككاتب تكفي وحدها لتحويل أوراقه لشريط سينما، نستمتع نحن به، ولن يشاهده هو حيث شاء القدر أن يرحل ويتركنا وحدنا في أرض الخوف!