فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

منال رضوان تكتب: "جددت حبك ليه لأم كلثوم"، عندما تكون الذاكرة قدرٌ عاطفي في مرثية الحب

منال رضوان
منال رضوان

تُعد أغنية «جددت حبك ليه» واحدة من العلامات الفارقة في الغناء العربي؛ حيث تتجسد بنية الألم فيها بوصفها جوهر التجربة العاطفية ومحركها الأساسي. 

غنّتها سيدة الغناء العربي أم كلثوم للمرة الأولى عام 1952 في حديقة الأزبكية، من كلمات أحمد رامي وألحان رياض السنباطي.

تعد الأغنية نصًا غنائيًا يتجاوز الشكوى الوجدانية إلى سلسلة من المساءلة حول العلاقة بين الحب والزمن والفقد والتمني الزائف بالثبات الشعوري.

بيد أنه منذ لحظة السؤال الافتتاحي، (جددت حبك ليه؟) تفرض الأغنية خطابًا مأزومًا، يكشف عن وعي عاطفي مثقل بالذاكرة، تتحول التجربة فيه إلى إعادة دائمة لإنتاج الألم عبر التذكّر.

ومنذ السؤال الذي يفتتح النص به نلاحظ قيام الأغنية على بنية وجدانية معقدة، يتداخل الوعي العاطفي فيها مع الإحساس بالزمن والذي يثقل كلما ازداد شعور الذات  بالفقد، فيمسي الحب اليائس تجربة ممتدة تتجاوز لحظة الفقد إلى إعادة إنتاجه عبر التذكار.

لذا نلاحظ شحذ التراكيب بدينامية تتصاعد توترًا ولا تخفت إطلاقًا حتى نهاية النص؛ فلا يكتفي المحب بالتعبير عن ألم الهجر، وإنما ينفذ إلى منطقة أعمق تتعلق بإدمان الذاكرة، واستحالة الانفصال عن الماضي حتى مع إدراك كلفته النفسية ليغرق في أسئلة أعمق من خطاب الحب التقليدي.. (إزاي أقلك كنا وكان والماضى كان فى الغيب بكرة).
فكما يبدأ الخطاب بسؤال يحمل في طياته إدانة للذات قبل توجيهه إلى الآخر: «جددت حبك ليه… بعد الفؤاد ما ارتاح».
يستمر في توجيه أسئلة تتخذ من الحب طرف الخيط لفكرة الاكتمال بالآخر، والتأرجح بين الأمس المتمثل في مخاتلة الهجران والحاضر؛ فيمثل إزكاءً للنيران التي كادت أن تخبو.

هذا السؤال.. كما السؤال الأول، لا يبحث عن تفسير؛ وإنما يكشف عن وعي يدور في فلك المعاناة، يعترف بفشله في التعافي، التجديد هنا فعل إرادي من المحبوب الغائب واقعًا، لكنه في الوقت ذاته يستتبع نتيجة صادرة عن ذات العاشق التي لا تمتلك القدرة على قطع الوصال، فتتحول المحاولة إلى شكل من أشكال الاستسلام الداخلي.

الفؤاد الذي لم يرتح يشير إلى حالة زمنية مفتوحة، حيث لا يصبح الألم ذكرى منتهية؛ وإنما وضعًا مستمرًا لم يبرأ العاشق من آثاره.

ليتقدم النص رويدًا رويدًا فيتناسب مع تلك الحيلة النفسية التي يلعبها المعشوق ويلمح النص إليها، فبعد أن هجر، عاد من دون اكتراث؛ لينكأ جرح الفؤاد بحضوره، ومن الملاحظ أن رامي لم يستخدم هنا مفردة القلب، وإنما استخدم الفؤاد في دليل بلاغي، أن حناياه لم تفرغ من سكنى الحبيب، فيطرح الهجر بوصفه تجربة معاشة داخل القرب المكاني؛ إذ يقول: ده الهجر وأنت قريب مني كان فيه أمل لوصالك يوم!! 

هذه الصياغة تفتح أفقًا نفسيًا أكثر قسوة من الفراق التقليدي، لأن الحضور الجسدي للطرف الآخر لا يمنح الطمأنينة أو الأمان؛ وإنما يعمّق الإحساس بالحرمان. الأمل الذي كان معقودًا على الوصال يتحول إلى عنصر ضاغط يضاعف من وطأة الانتظار، ويجعل الزمن ذاته عبئًا عاطفيًا.

يتضح ذلك في المقاطع اللاحقة؛ إذ يتكثف البعد الداخلي للنص عبر أسئلة موجهة إلى قلب الحبيب: (يا هل ترى قلبك مشتاق… يحس لوعة قلبي عليك).

الشاعر أحمد رامي، فيتو
الشاعر أحمد رامي، فيتو


السؤال هنا يحمل رغبة في الاعتراف المتبادل، لكنه يظل معلقًا في الفراغ، وهو ما يعكس اختلال ميزان الشعور بين الطرفين؛ فبينما الذات الغنائية تعيش حالة الوضوح الكامل والاعتراف، نجد هذا يقابله مراوغة الطرف الآخر، لنلاحظ ازدياد وحدة الصوت المتكلم تدريجيًا، ويصبح الحوار أحادي الاتجاه.

لكن من اللافت فكرة استدعاء النص للإيهام عبر فكرة الصفقة الوجودية مع الحب، فرغم الأمل المفقود يحاول المحب نثر الورد على قبر ذلك الشعور المغتال بعبارة تستحق الرثاء أكثر مما تستدعي الاستيعاب؛ فحين يقول، حبك شباب على طول والتي حرص السنباطي على مزجها بإيقاع خافت نشعر أنها بمثابة صحوة الموت، ليفيق المحب على حقيقة تتجاوز هذا الإيهام في قوله: (دانا لو نسيت اللي كان… أقدر أجيب العمر منين) النسيان هنا لا يُطرح كحل بديل؛ وإنما كخسارة مضاعفة، لأن الماضي يمثل رأس المال العاطفي الوحيد المتبقي!

كما أن العمر الفار من أنياب الزمن بينهما، لا يُقاس بالسنوات، بقدر ما يحمل من تجارب حب وهجران، من ثم، فإن التفريط في الذكرى يبدو معادلًا لإهدار زمن المُحب كله.

لذا يمكن ملاحظة أن الأغنية تعتمد على شبكة دلالية قائمة على ازدواج المعنى داخل التجربة الواحدة؛ فالحبيب يجمع النعيم والعذاب، والهنا والضنا، ويختصر العمر في هاتين الحالتين، هذا الجمع لا يأتي بوصفه تناقضًا لغويًا مصطنعًا، بقدر كونه التوصيف الصادق لطبيعة تلك التجربة العاطفية والتي قيل أنها تجربة الشاعر ذاته؛ حيث لا يمكن فصل اللذة عن الألم، ولا يمكن استدعاء أحدهما من دون الآخر، ليظل الحب، في هذا النص، حالة كلية تستوعب المتناقضات داخل بنيتها.

كما يلعب الزمن دورًا محوريًا في تشكيل الرؤية الشعرية للأغنية؛ فتكرار عبارة (سنة ورا سنة) يمنح الإحساس بالدوران داخل حلقة مفرغة؛ حيث تمر الأعوام من دون أن تفضي إلى تحول حقيقي. ومع ذلك، يظل الحب محتفظًا بصفة الشباب، في أمنية يائسة بأن المشاعر لا تخضع لقوانين الشيخوخة الزمنية، حتى وإن استنزفت الجسد والروح!


فيرسخ كل ما هو ضد الطبيعة بوصفه في نتيجة لا تتسق وما قبلها من عذاب لكنها لذة الألم، ونشوة الأمل فيتداخل الماضي والحاضر والمستقبل في نسيج واحد. الحبيب يصبح الخيال والروح وسمير الأمل، والزمن يتحرك دون أن تملك الذات قدرة  الإمساك به، أو الإفلات منه هذا التداخل الزمني يعكس حالة ذوبان الوعي في الحب، حيث تفقد اللحظات حدودها، ويتحول العمر إلى مسافة شعورية غير قابلة للقياس.

لتنجح الأغنية في بناء خطاب عاطفي عميق يعتمد على الصدق الشعوري، وتكثيف التجربة الإنسانية، من دون افتعال لغوي أو مباشرة خطابية؛ رغم الإقرار بوجود الزخرف البلاغي والجناس في بعض المواضع.. لتظل جددت حبك ليه أحد أهم مراثي الحب في الغناء العربي، يعاد من خلالها إنتاج الحب والألم باعتبارهما وجهين لعملة واحدة.