فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

الدور الإقليمي في إعادة تشكيل النظام الدولي المعاصر

عندما ننظر إلى الساحة الدولية في السنوات الأخيرة نجد تحولات عميقة تمس بنية النظام العالمي وطبيعة التفاعلات بين الفاعلين الدوليين. ولم تعد هذه التحولات مقتصرة على مستوى القوى الكبرى أو المؤسسات الدولية، بل امتد تأثيرها ليشمل الأقاليم الجغرافية المختلفة، حيث أصبح البعد الإقليمي عاملًا حاسمًا في فهم ديناميات السياسة والاقتصاد والأمن في العالم المعاصر. 

 

وفي هذا السياق، يبرز البعد الإقليمي بوصفه حلقة وصل بين النظام الدولي الشامل والواقع المحلي للدول، وأداة رئيسية لإعادة تشكيل موازين القوة والنفوذ. فقد أسهمت التحولات الدولية الراهنة، وفي مقدمتها الانتقال من نظام أحادي القطبية إلى نظام يميل نحو التعددية القطبية، في تعزيز دور الأقاليم.

 

فالتراجع النسبي للهيمنة الأمريكية، وصعود قوى دولية جديدة مثل الصين وروسيا، أفسح المجال أمام الأقاليم لتقوم بأدوار أكثر استقلالية. وأصبحت التكتلات الإقليمية، كالاتحاد الأوروبي، ودول جنوب شرق آسيا، والاتحاد الإفريقي، تسعى إلى تعزيز قدراتها الذاتية في مواجهة التحديات العالمية، سواء الاقتصادية أو الأمنية. 

 

وقد أفرزت العولمة، رغم ما شهدته من تباطؤ في السنوات الأخيرة، نمطًا جديدًا من الاعتماد المتبادل داخل الأقاليم. فقد باتت سلاسل التوريد، والتكامل الاقتصادي، والتعاون في مجالات الطاقة والتكنولوجيا، ذات طابع إقليمي متزايد. 

 

ومع تصاعد النزاعات التجارية والاقتصادية بين القوى الكبرى، اتجهت العديد من الدول إلى تعميق شراكاتها الإقليمية كوسيلة لتقليل المخاطر وضمان الاستقرار الاقتصادي، وهو ما عزز من أهمية الأطر الإقليمية في إدارة الاقتصاد العالمي. 

 

وعلى الصعيد الأمني، كشفت التحولات الدولية عن تنامي الطابع الإقليمي للنزاعات والأزمات. فالكثير من الصراعات المعاصرة، وإن بدت محلية في ظاهرها، إلا أنها تحمل أبعادًا إقليمية واضحة، سواء من حيث أطرافها أو تداعياتها. كما أن تراجع فاعلية بعض آليات الأمن الدولي دفع الأقاليم إلى البحث عن صيغ إقليمية لإدارة الأزمات، مثل التحالفات العسكرية الإقليمية، أو مبادرات الوساطة التي تقودها قوى إقليمية فاعلة. 

 

ولعبت أيضا التحولات التكنولوجية، وخاصة في مجالات الاتصالات والذكاء الاصطناعي والطاقة، دورًا مهمًا في إعادة تشكيل الأدوار الإقليمية. فالتنافس الدولي على التكنولوجيا المتقدمة انعكس إقليميًا من خلال سباقات للابتكار، ومحاولات لبناء منظومات إقليمية للتكنولوجيا والأمن السيبراني. 

 

وأدى ذلك إلى بروز أقاليم كمراكز تكنولوجية عالمية، وإلى تعميق الفجوات بين الأقاليم المتقدمة وتلك التي لا تزال تعاني من ضعف البنية التحتية والمعرفية. وأيضا في ظل التحديات العالمية العابرة للحدود، مثل التغير المناخي، والأوبئة، والهجرة غير الشرعية، برز البعد الإقليمي كإطار عملي وفعال للتعامل مع هذه القضايا. 

 

فالتنسيق الإقليمي يتيح استجابات أكثر مرونة وملاءمة للخصوصيات الجغرافية والاجتماعية، مقارنة بالحلول الدولية العامة. ومن ثم، أصبحت الأقاليم فضاءات أساسية لصياغة السياسات المشتركة التي تكمل الجهود الدولية ولا تتعارض معها. 

وفي الحقيقة أرى أن البعد الإقليمي للتحولات الدولية الراهنة لم يعد مجرد مستوى وسيط بين المحلي والعالمي، بل تحول إلى عنصر بنيوي في النظام الدولي الجديد. فالأقاليم أصبحت ساحات للتنافس والتعاون في آن واحد، وفاعلًا رئيسيًا في صياغة ملامح المرحلة القادمة. 

ومن هنا، فإن فهم التحولات الدولية المعاصرة يظل ناقصًا ما لم يُنظر إليه من منظور إقليمي يأخذ في الحسبان تفاعلات القوى، وتباين المصالح، وخصوصيات السياقات الجغرافية والسياسية المختلفة.