فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

يعرف ما لا نبوح به

هناك لحظات يستيقظ فيها الإنسان وهو يحمل داخل قلبه أثقالًا لا يعرف أحد عنها شيئًا، يمشي بين الناس مبتسمًا، بينما في أعماقه جروح خفيّة لا تُرى، وتعب داخلي لا يجد من يقرأه، وقد يكتم الإنسان أوجاعه لأنه لا يجد من يحتمله، أو لأنه يخشى أن يبوح بما يثقل عليه، أو لأن الوجع نفسه صار أكبر من الشرح.

 

وهناك من يعتاد الصمت في أشد أوقاته ألمًا، وكأن الكلمات لن تُجدي، أو كأن العالم كله مشغول عن سماع صوت قلبه. لكن الحقيقة الإلهيّة التي لا تتبدل هي أنّ الله يرى ما لا يُنطق، ويسمع حتى الصرخة التي تخرج بلا صوت، ويقترب إلى القلب حين يعجز اللسان عن الكلام.

 

ليس كل صراخ يرتفع إلى الله يخرج بصوت مسموع؛ فهناك صراخ داخلي يعرفه الله وحده، أنين مكتوم لا يفهمه بشر، تنهيدة خافتة يطلقها القلب ولا ينتبه لها أحد، لكنها تقف أمام الله واضحة كالنور. هذا ما يعلنه الكتاب حين يقول: «قَبْلَمَا يَدْعُونَ أَنَا أُجِيبُ، وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بَعْدُ أَنَا أَسْمَعُ» (أش ٦٥: ٢٤).

 

وقد ينام الإنسان والقلق يسكن صدره، أو يواجه ضغوطًا تحيط به من كل جهة، أو يجد نفسه وحيدًا في معركة نفسية لا يعرفها أحد.. لكن الله يرى، ويعرف، ويقترب. «قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي.. وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ.. لأَنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ» (خر ٣: ٧).

 

وحين يصرخ الإنسان إلى الله حتى من غير كلمات فإنما يعلن ثقته، لا ضعفه. فالصراخ إلى الله هو حركة قلب يصعد إلى السماء، إعلان أن الرجاء لم يعد معلّقًا على بشر، وأن المعونة لن تأتي إلا من فوق. 

لذلك يهتف داود: «أَمَّا أَنَا فَإِلَى اللهِ أَصْرُخُ، وَالرَّبُّ يُخَلِّصُنِي» (مز ٥٥: ١٦). ويؤكد أيضًا: «قَدْ سَمِعَ الرَّبُّ صَوْتَ بُكَائِي.. الرَّبُّ يَقْبَلُ صَلاَتِي» (مز ٦: ٨). وما أجمل قوله: «عِنْدَ كَثْرَةِ هُمُومِي فِي دَاخِلِي، تَعْزِيَاتُكَ تُلَذِّذُ نَفْسِي» (مز ٩٤: ١٩).

 

هذا الحضور الإلهي الخفي هو الذي يعطي الإنسان قوة داخلية في لحظة لا يعرف كيف أتت، وسلامًا مفاجئًا يهدّئ القلب، وفكرة جديدة تشقّ الظلام، وشعورًا بأن ثقلًا قد انزاح دون تفسير.

 

وقد يظهر خلاص الله بطرق غير متوقعة كباب يُفتح، طريق يتغيّر، حماية لم تنتبه إليها إلا بعد مرورك بالخطر، أو سلام عميق يهبك القدرة على الاحتمال. الله لا يتدخل دائمًا بالطريقة التي نطلبها، لكنه يتدخل دائمًا بالطريقة التي نحتاجها. وما من إنسان صرخ إليه بصدق إلا واستجاب له، لأن الكتاب يؤكد «قَرِيبٌ هُوَ الرَّبُّ مِنَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، وَيُخَلِّصُ مُنْسَحِقِي الرُّوحِ» (مز ٣٤: ١٨).

فإن كنت اليوم تحمل ما لا يعرفه أحد، أو تخفي وجعًا لا تقدر أن تبوح به، أو لا تجد من يسمعك بصدق، فالله يسمعك قبل أن تتكلم. وإن لم تجد كلمات تصلي بها، فالصمت نفسه يصبح صلاة حين يُرفع إلى الله. اسكب قلبك أمامه، كما يدعوك المزمور: « لَنَا» (مز ٦٢: ٨). وما دمت ترفع عينيك إليه، فالخلاص آتٍ، والتعزية قريبة، لأن الرب أمين، قريب، ويعرف توقيت الراحة قبل أن تطلبها أنت.