عباقرة ولكن مجهولون، "عبد الرحمن الخازني" أبو الميكانيكا ضحية الحسن بن الهيثم
على مر التاريخ الإسلامي لمعت أسماء عباقرة في مختلف المجالات مثل: ابن الخطاب، والصديق، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن عبد العزيز، والبخاري، والشافعي، وابن حنبل، ابن سينا.. ابن رشد.. الكندي.. الفارابي.. الخوارزمي.. الطبري.. أبو حامد الغزالي.. البوصيري.. حتى محمد عبده.. المراغي.. المنفلوطي.. رفاعة الطهطاوي.. طه حسين.. العقاد.. أحمد شوقي.. عبد الحليم محمود.. محمد رفعت.. النقشبندي.. الحصري.. عبد الباسط.. وغيرهم، في العصر الحديث.
لكن هناك أسماء مهمة كان لها بصماتها القوية على العلم والحضارة، ولا يكاد يعرفها أحد، وفي هذه الحلقات نتناول سير بعض هؤلاء العباقرة المجهولين.
عبد الرحمن الخازني، أبو الميكانيكا والهيدروستاتيكا "ضحية الحسن بن الهيثم"
هو أبو الفتح عبد الرحمن المنصور الخازني (الخازن) من أهم علماء النصف الأول من القرن الثاني عشر للميلاد، لكنه للأسف ظل فترة طويلة مجهولا، حتى في العالم الإسلامي، بسبب خلط علماء الغرب بين اسمه وبين الحسن بن الهيثم.
نشأ في مرو، أحد أشهر مدن خراسان (تركمانستان اليوم) يعتبره المؤرخون من أبرز علماء فن الحيل “الميكانيكا” وموازنة السوائل “الهيدروستاتيكا”، وعلم الطبيعة في الحضارة الإسلامية.
نشأة الخازني
لا تتوافر في المراجع معلومات حول نشأة الخازني، إلا أن ظهير الدين البيهقي مؤلف كتاب "تاريخ حكماء الإسلام" والذي عاش في نفس الفترة يذكر أنه كان مولى لعلي الخازن المروزي، ونشأ في كنفه بمرو ومكنه من تربية علمية صحيحة في علوم الهندسة والفلك. وصحب بعد ذلك سلطان خراسان ونال عنده حظوة.
درس الخازني على علماء مرو، ونبغ ولمع في سماء العلوم واشتغل في الطبيعة، ولاسيما في بحوث الميكانيكا، فبلغ الذروة، وأتى بما لم يأت به غيره من الذين سبقوه من علماء اليونان والعرب.
كتاب "ميزان الحكمة"
ألَّف في ذلك كتاب "ميزان الحكمة" وانتهى من تأليفه عام 1122.
تمكن من عمل زيج فلكي سماه "الزيج المعتبر السنجاري" وفيه حسب مواقع النجوم لعام 1115م، وجمع أرصادًا أخرى في غاية الدقة بقيت مرجعًا للفلكيين مدة طويلة.
ولسوء حظه فإن مؤرخي العلم لم ينصفوا هذا العالم الكبير خصوصا في الغرب؛ حيث خلطوا بينه وبين الحسن بن الهيثم لتشابه اسميهما لدى الغربيين.
فابن الهيثم يعرف لدى الاوروبيين باسم ALHAZEN والخازني باسم ALKHAZEN.
وقد وقع في هذا الخلط بعض المؤرخين العرب والمسلمين.
من جانبه، يرى الدكتور كارم السيد غنيم أستاذ بكلية العلوم جامعة الأزهر، أن هذا الإهمال استمر يلحق الخازن إلى أن قدر الله، وعثر قنصل روسيا في تبريز بإيران في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي على كتاب "ميزان الحكمة"
أشهر كتب الخازني.
وكتب عنه عدة مقالات في مجلات أمريكية، ولفت الأنظار إلى صاحبه.
ومؤخرا، اعتنى العلماء بتراثه، ومنهم الفيزيائي الألماني Wiedeman الذي بين فضل الخازن ومكانته بين علماء العالم وأهميته في مسيرة الحضارة البشرية.
وهناك نسخ من "ميزان الحكمة " في مكتبة مسجد بومباي بالهند، وفي المكتبة الآصفية في حيدر آباد في باكستان ونسخة ثالثة في مكتبة جامعة سان بيترسبورغ في روسيا.
ويعد كتاب "ميزان الحكمة" أروع ما أنتجته القريحة في القرون الوسطى، وضمنه الخازني جملة أعماله في مجال علم الميكانيكا وموازنة السوائل، منها ابتكاره ميزانًا لوزن الأجسام في الهواء والماء واستعماله في حساب الوزن النوعي للعديد من المواد.
ويرى المؤرخون أن بحوث الخازن كانت من الأسس التي بنى عليها العلماء فيما بعد بعض الاختراعات كالبارومتر ومفرغات الهواء والمضخات المستعملة في رفع الماء.
واخترع ميزانا لوزن الأجسام في الهواء والماء، وقام بحساب الكثافة.
أما المستشرق دونالد هيل في كتابه "العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية"، فيعتبر كتاب "ميزان الحكمة" أهم وأشمل مؤلف في للميكانيكا إبان العصور الوسطى.
وهو نفس الرأي الذي أورده المستشرق آلدو ميلي في كتابه "العلم عند العرب وأثره في العلم العالمي".
ولنا أن نتصور قيمة هذا العمل حقيقة أن الخازني عرض لتاريخ علم السكون "الاستاتيكا Statices» وعلم توازن الموائع وضغطها "الهيدروستاتيكا Hydrostatics" مع شروح لعلوم من سبقوه، مثل: أرشميدس وإقليدس والبيروني وعمر الخيام.
ويضم كتاب "ميزان الحكمة" ثمانية مقالات هي:
- نظريات مركز الثقل طبقا لعلماء الاغريق والعرب.
- مزيد من مناقشة مراكز الثقل وآلية الميزان القباني.
- الكثافات المقارنة لفلزات وأحجار كريمة مختلفة طبقا للبيروني.
- موازين صممها علماء مختلفون من الاغريق والعرب.
- ميزان الماء الذي ذكره عمر الخيام ضبطه واختباره واساليبه.
- الميزان الجامع تعيين مكونات السبائك.
- أوزان العملة.
- ميزان الساعة المائية.
مفهوم الجاذبية
وعالج الخازني في كتابه لمفهوم الجاذبية باستثناء الأجرام السماوية كقوة كونية. واعتبر هذه القوة جاذبة نحو مركز الأرض وأن هذا الجذب يعتمد على كتلة الجسم.
وتهتم المقالات الباقية من الكتاب بتعيين الأوزان النوعية للفلزات والأحجار الكريمة والسبائك.
وأورد الخازني شرحا مفصلا لآلة البيروني لقياس الأوزان النوعية، واستخدم الآلة في تعيين قيم الوزن النوعي لـ50 مادة منها تسعة فلزات و10 أحجار كريمة و13 مادة صلبة غير نفيسة و18 سائلا بما فيها الماء.
وتميزت هذه القياسات بدقتها حد التطابق أحيانا مع القيم الحديثة.
وخصص الخازني بقية الكتاب لوصف موازين متنوعة بدءا بميزان يُنسب لأرشميدس، مرورا بموازين طورها علماء مسلمون، وانتهاء بوصف تفصيلي للميزان الذي أسماه "ميزان الحكمة" أو الميزان الجامع.
ويمثل "ميزان الحكمة" ذروة قرون من التطورات الإغريقية والإسلامية في علم الأوزان وتعيين الأثقال النوعية.
ويؤكد مؤلف كتاب "دور علماء الحضارة العربية الإسلامية في تأسيس العلوم الحديثة": الخازني بنى كتابه "ميزان الحكمة" على البراهين الهندسية، وكانت مسلَّماته نقطة الانطلاق في مؤلفات علماء النهضة في أوروبا، ومرحلة سابقة لكل من غاليليو وإسحق نيوتن ومن هذه المسلمات:
- الأجسام الثقال قد تتساوى أثقالها وإن كانت مختلفة في القوة مختلفة في الشكل.
- كل مسافتين يقطعهما متحركان في زمانين متساويين، فإن نسبة إحدى المسافتين إلى الأخرى كنسبة قوة المتحرك في المسافة المستوية إلى قوة المتحرك الآخر.
- كل خط ينقسم بقسمين متساويين ويعلق في طرفيه ثقلان متساويان، فإن ذلك الخط إذا علق بالنقطة القاسمة له بنصفين، وازى الأفق.
مؤلفاته الأخرى
أيضا ألف الخازني "الزيج المعتبر السنجري"، ويذكر فيه مواقع الثوابت في عام 1116م، والمطالع المائلة والمعادلات الزمنية لخط عرض مدينة مرو 37 درجة و40 دقيقة.
كما وضع "رسالة في الآلات العجيبة الرصدية" قام فيها بدراسة الأجهزة المستعملة في عصره للحسابات الفلكية.
وكتب مقالة في "اتخاذ كرة تدور بذاتها بحركة مساوية لحركة الفلك ومعرفة العمل بها ساكنة ومتحركة"، قام بتحقيقها ريتشارد لورش من جامعة ميونيخ الألمانية في بحثه المنشور بمجلة تاريخ العلوم العربية (العدد 2 أكتوبر 1980)، لا يتجاوز عدد صفحاتها ثلاث صفحات، وصف فيها الخازني هذه الآلة وصفا دقيقا، ووضح كيفية استعمالها وحدد وظائفها.
وباستخدام هذه الآلة يمكن قياس ارتفاع الأجرام السماوية ودرجة ميلانها وحساب أطوار القمر.
وفاته
توفي نحو عام 1155 للميلاد.