فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

في غزة.. الأمطار تستأنف حرب الإبادة

كأن أهلينا الغزاويين كان ينقصهم طقس الشتاء القارس، والقاسي، فلم يكادوا يفيقون من القصف اللامتناهي بكل أنواع الأسلحة المتطورة، والمجاعة الشنعاء، التي لا ترحم، حتى بدأوا في استقبال ضيف شديد الوطأة.. هذا الضيف الغريب، الذي جاء في ظل ظروف غير مواتية بالمرة هو فصل الشتاء.

الصديق الدكتور يحيى بركات، المثقف الفلسطيني، يصف الوضع الجديد، المؤلم في غزة، بالقول: حين تتحوّل الأمطار إلى سلاح، ويصير البرد آلةَ قتل، هكذا تُكمِل إسرائيل حربَ الإبادة بأشكالٍ جديدة من الغرق والمرض والموتِ بردًا.

ويستأنف: هذه امرأة واحدة.. لكن خلفها آلاف، بل عشرات الآلاف، يعيشون منذ عامين على ركام الحرب، ينتقلون من خيمة إلى خيمة، من أرضٍ إلى أرض، من موتٍ إلى موت. خيامٌ صنعوها بأيديهم، من شراشف قديمة، من قطع ملابس، من بطانيات كانت تقي حر الشمس لكنها لا تحمي من أول رعشة مطر.

بعد أول ليلة شتاء، تطايرت الخيام.. وسقط الأطفال في الماء. ولم يتدخل أحد.. ولم تصل خيمة واحدة مقاومة للمطر رغم تحذيرات الأمم المتحدة التي طالبت بإدخال مواد الإيواء قبل أسابيع من العاصفة.
ولم تصل معدات لانتشال الجثث التي لا تزال تحت الركام، ملايين الأطنان من الإسمنت فوق عشرات الآلاف من البشر الذين لم يُسمح حتى بإخراج أجسادهم لتُدفن بكرامة.

المأساة تزداد عمقًا إذا ما علمنا بأن هناك أعداء لأشقائنا من بينهم، في شكل عصابات للسيطرة على الموارد والمساعدات القادمة من مصر، ودول شقيقة، ثم طرحها للبيع في السوق السوداء، حينها يتحول الجرح إلى شق عريض في الجسم، لا يقبل الشفاء، ويستعصي على الدواء.

يضيف د. يحيى بركات: هذه ليست كارثة طبيعية.. هذه هندسة تجويع، هندسة برد، هندسة تهجير.
هذا ما يسميه نتنياهو خروجًا طوعيًّا، وما يسميه الغرب حلًّا إنسانيًّا، وما يسميه المجرمون فرصة.
فرصة لدفع الفلسطينيين إلى حدود مصر، إلى المجهول، عبر قتل مقومات الحياة، لا أكثر.

ومع المطر، ظهرت الكارثة المخفية التي كانت تنتظر اللحظة المناسبة: القنابل غير المنفجرة.
تقديرات رسمية تتحدث عن آلاف القذائف المدفونة تحت الركام، بعضها يتحرك مع الطين، بعضها ينكشف مع المطر، بعضها ينفجر قرب الخيام..

قُتل أطفال في الأسابيع الماضية نتيجة انفجار مخلفات القصف في مناطق النزوح، في المخيمات، بين الألعاب الصغيرة وقطع الركام. الشتاء في غزة لا يسقط ماءً فقط، بل يسقط فوقه موتٌ قديم لم ينفجر بعد.

مجلس الأمن؟ القرار حبر على ورق. الشق الإنساني الذي يطالب بإدخال المساعدات، لم يُنفذ. الخيام لم تدخل حتى الآن، والغذاء لم يصل، أما الدواء فهو ممنوع.. مع أن التقارير الأممية تقول بوضوح إن إدخال الخيام والوقود ومعدات رفع الركام ضرورة عاجلة لمنع كارثة صحية واجتماعية.

كيف يقف العالم اليوم أمام امرأة تصرخ من قلب المطر ولا يتحرك؟ كيف يقف الغرب الذي ارتجّ لأجل أوكرانيا، لأجل كل شجرة سقطت هناك، ولا يتحرك لأطفال يموتون غرقًا في مخيمات قسرية؟
كيف يقبل دعاة الديمقراطية والحقوق والمدافعين عن قيم الإنسانية أن يشاهدوا جريمة تتم علنًا، جريمة برد، جريمة مطر، جريمة جوع؟

إذا كان العالم يملك ذرة إنسانية، إذا كان الشارع الغربي لا يزال قادرًا على الغضب، إذا كانت أمريكا لا تزال تزعم أنها تريد الاستقرار، فهذا وقت الحركة.. فهذه المرأة لا تصرخ لأجل نفسها. هي تصرخ بأصوات مئات آلاف النساء اللواتي بقين بلا بيت، بلا وطن، بلا سقف، بلا كفن حتى. تصوت بصرخات أطفال يصبح الموت بالنسبة لهم أدفأ من الخيمة.

تصوت بآلاف الجثث التي لا تزال تحت الركام تنتظر من ينتشلها قبل أن ينهشها المطر. تصوت على قنابل غير منفجرة تتحرك في الوحل، قنابل لم تعد تعرف صمتها، تنتظر فقط قدم طفل أو زخة مطر لتنفجر.

هذا ليس نداء غزة. هذا نداء الإنسانية نفسها. نداء إلى كل شارع غربي، إلى كل إنسان حر، إلى كل ضمير لم يتجمد بعد: اضغطوا على حكوماتكم؛ لتضغط على أمريكا، ولتجبر إسرائيل على تنفيذ ما وقّعت عليه. لإدخال الخيام.. لإدخال الغذاء.. لإدخال المعدات.. لرفع الحصار.. لوقف التهجير المقنّع باسم الطوعية.. لوقف جريمة تستمر كل يوم.. تحت المطر.

الوقت يمر.. والأطفال يموتون.. ليس بالصواريخ، بل غرقًا من الأمطار، ومرضًا من برد الشتاء، وموتًا من قنابل لم تنفجر يومًا، وصمتًا من العالم.