فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

عبد الناصر والانتخابات!

لم يكن جمال عبد الناصر يبالغ حين قال إن المساواة الحقيقية تبدأ من شعور الفقير الذي لا يجد قوت عشائه بأنه يقف على أرض واحدة مع صاحب المئة ألف جنيه.. كان يدرك أن الفقر ليس مجرد نقص في الدخل، بل نقص في القدرة على الاختيار؛ فالإنسان الذي يطارد اللقمة لا يدافع عن صوته، بل يساوم عليه، ويصبح بيعه مقابل “عشرة صاغ” نتيجة منطقية لواقعٍ يضغط عليه من كل اتجاه.


من هنا جاءت فكرته بأن حرية الخبز هي الضمانة الأولى لحرية الانتخاب؛ فالديمقراطية لا تُمارس تحت وطأة الجوع، ولا تُبنى إرادة سياسية فوق أرض رخوة تهتز مع كل أزمة معيشية. المواطن المطمئن إلى يومه وغده هو فقط من يملك رفاهية اتخاذ موقف، ورفض الإغراء، وصدّ الاستغلال.


لكن السؤال الحاسم اليوم: هل يشعر الناخبون بالأمن الاقتصادي والاجتماعي الذي يسمح لهم بتكوين قرار حقيقي؟ وهل خياراتهم نابعة من قناعة ورؤية، أم من الخوف وضيق الحال والحسابات اليومية الثقيلة؟


الحقيقة أن جزءًا كبيرًا من الناخبين يعيش في مساحة مشوشة، تختلط فيها الحاجة بالرغبة في الأمان، والاحتياج بالخوف من المجهول. وفي ظل هذا المناخ تصبح الانتخابات -في نظر البعض- وسيلة لحماية الحد الأدنى من الاستقرار، لا مناسبة لاختيار الأفضل. 

 

فالفرد الذي لا يضمن دخله أو قدرته الشرائية قد يصوّت ليس لمن يثق فيه، بل لمن يظن أنه لن يزعزع حياته أكثر مما هي مهزوزة.


ولهذا فإن الإرادة السياسية لا تُصنع يوم التصويت؛ إنها تُبنى عبر سنوات من جودة الخدمات، وعدالة توزيع الفرص، وقوة الطبقة الوسطى، وشعور المواطن بأن الدولة تقف خلفه لا فوقه. وحين يختل هذا الميزان، تتراجع حرية الاختيار، وتتقدم الحاجة لتصبح هي اللاعب الخفي الذي يحدد اتجاه الأصوات.
 

في النهاية، كان جوهر رؤية عبد الناصر بسيطًا وعميقًا: لا تصح ديمقراطيةٌ بلا كرامة معيشية،
ولا تُحترم إرادةٌ تُشترى، ولا يُبنى وطنٌ على صوتٍ انتُزع من فم الحاجة. فالإنسان الذي يملك خبزه، يملك رأيه، ويملك صوته.. ويملك، قبل ذلك كله، نفسه.