الدعم.. بين الجنزوري وبطرس غالي!
حين تحدّث الدكتور كمال الجنزوري، رئيس وزراء مصر الأسبق وهو خبير تخطيط واقتصاد لا يشق له غبار، عما وصفه بـ خدعة دعم المواد البترولية، كان كمن يزيح الغطاء عن واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في الاقتصاد المصري.
فالقضية لم تكن، كما قال، مجرد أرقام تُسجّل في الموازنة العامة، بل كانت رؤية اقتصادية تُدار بخلفية سياسية، رسّخت في الوعي العام أن المواطن يعيش عالة على منحة دائمة من الدولة.
فمنذ التسعينيات، استقر في الأذهان أن الدولة تتحمّل مليارات لدعم الوقود، وكأن المواطن عبء ثقيل على خزانة البلاد. لكن الجنزوري لفت إلى أن هذا المفهوم لم يكن دقيقًا تمامًا، لأن جزءًا كبيرًا مما يُحسب دعمًا هو في الأصل فارق محاسبي بين سعر النفط العالمي وسعره المحلي، وليس إنفاقًا نقديًا مباشرًا.
وبينما ظل هذا المفهوم يُستخدم لتبرير قرارات رفع الأسعار أو ترشيد الدعم، ظلّ المواطن لا يشعر بأن نصيبه من الثروة الوطنية يُدار بشفافية أو بعدالة. فكلما ارتفع سعر النفط عالميًا، ارتفعت الأسعار محليًا، وحين تراجع عالميًا، بقيت الأسعار كما هي، وكأن اتجاه الأسعار في الداخل لا يعرف طريق العودة.
وإذا تأملنا تجارب دول أخرى، نجد أن الكثير من الدول النفطية وغير النفطية تعاملت مع تقلبات الأسواق بنهج أكثر توازنًا. فدول مثل السعودية والإمارات خفّضت أسعار المحروقات في فترات انخفاض أسعار النفط عالميا، بينما اختارت المغرب والأردن تثبيتها مؤقتًا لتخفيف الأثر عن المواطنين.
أما في مصر، فقد استقرت الأسعار نسبيًا رغم انخفاض الأسعار العالمية، بدعوى الحفاظ على الموازنة العامة واستقرار السوق الداخلي. وهنا يبرز السؤال الذي طرحه الجنزوري ضمنًا: هل الدعم مجرد أرقام في الموازنة، أم أنه انعكاس لعلاقة الثقة بين الدولة ومواطنيها؟
فحين يشعر المواطن بأن الدولة تُعيد توزيع مواردها بعدل، يصبح مستعدًا لتحمّل القرارات الصعبة، أما إذا شعر أن الدعم سلاحٌ يُستخدم لإسكاته أو تذكيره بفضل الحكومة عليه، فإن الثقة الاقتصادية تنهار مهما كانت المؤشرات إيجابية.
ولعل ما قصده الجنزوري أعمق من قضية الوقود نفسها. فهو دعوة لإعادة تعريف معنى الدعم: هل هو خفض الأسعار فحسب؟ أم توجيه الموارد نحو ما هو أكثر استدامة؟
الدعم الحقيقي هو ما يُنفق على التعليم الجيد، والرعاية الصحية، والبنية الإنتاجية التي تُتيح العمل الكريم، لا مجرد تثبيت مؤقت للأسعار.
بهذا الفهم، يصبح الدعم استثمارًا في الإنسان، لا منّة عليه. وتصبح الدولة شريكًا في بناء قدراته لا متفضلًا عليه بصدقة مؤقتة. عندها فقط يمكن القول إننا تجاوزنا “خدعة الدعم” إلى حقيقة العدالة الاقتصادية التي كان الجنزوري يحلم بها.. وبقي اخيرًا أن المواطن هو الضحية لسياسات متضاربة!