الكنز المفقود!
الطبيب الياباني شيجياكي هينوهارا لم يكن مجرد رجل طب، بل كان روحًا متقدة جعلت من الحياة رسالة ومن العمل عبادة، عاش أكثر من قرنٍ من الزمان في حركةٍ لا تعرف السكون، فكتب بعد الخامسة والسبعين أكثر من مئةٍ وخمسين كتابًا..
وواصل علاج الناس وإلقاء المحاضرات حتى تجاوز المئة من عمره. لقّبته بلاده بـ "كنز اليابان الحي" لأنه لم يكتفِ بأن يطيل أعمار الناس بالدواء، بل علّمهم كيف يعيشونها ببهجةٍ وسكينة.
كان يرى أن سرّ الحياة السعيدة والصحية لا يكمن في كثرة الطعام أو طول النوم، بل في الفرح والدهشة والنية الصادقة في العطاء. كان يقول إن الإنسان يستمد طاقته من المرح، وإن الانشغال بما يحب يجعله ينسى الجوع والتعب.
دعا إلى الاعتدال في الأكل، وصعود السلالم بالأقدام، ومواجهة الألم بالحبّ والموسيقى والفن، لأن الجسد لا يشفى بالدواء وحده، بل بحاجة إلى أن تُشفى روحه أولًا. علّم الناس أن التقاعد ليس ضرورة، وأن من يعمل من أجل الآخرين يعيش أطول وأصفى.
ظلّ بسيطًا زاهدًا في الماديات، يرى أن كل ما نملكه مصيره الزوال، أما ما نقدمه للناس فيبقى. وحين سُئل عن سرّ عمره الطويل قال: خططوا للمستقبل وكأنكم ستعيشون أبدًا، واعملوا للناس كأنكم سترحلون غدًا.
وهكذا رحل كنز اليابان الحي بهدوءٍ يشبه حِكمته، تاركًا للعالم خلاصة تجربته: أن القلب الذي ينبض بالعطاء لا يشيخ، وأن الفرح في خدمة الآخرين هو الدواء الأعظم للحياة.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه بعد تأمل سيرته: ماذا نفعل نحن بحياتنا؟ كيف نُدير غذاءنا ودواءنا، وهمومنا وعلاقاتنا؟ هل نحيا كما أراد الله لنا أن نحيا، بخفة الروح ونقاء القلب وصدق النية؟ أم أننا نستهلك أعمارنا في اللهاث خلف ما لا يُسعد، وفي القلق على ما لا يستحق؟
هينوهارا لم يترك لنا وصفة طبية فحسب، بل منهجًا للحياة يقوم على الفرح والبساطة والعطاء، على أن يكون الجسد خادمًا للروح لا سيدًا عليها، وأن يكون الحب علاجًا قبل الدواء، والابتسامة وقاية قبل المرض.
لقد علّمنا أن السعادة لا تُشترى، وأن العمر لا يُقاس بطوله بل بعمقه، وأن الحياة حين تُعاش من أجل الآخرين تُصبح أجمل، وأطول، وأقرب إلى المعنى الذي خُلقنا من أجله. فيا ليتنا نتوقف لحظة ونسأل أنفسنا بصدق: هل نغذّي أجسادنا ونُميت أرواحنا؟ هل نملك الأشياء أم أننا أصبحنا مملوكين لها؟ ومتى ندرك أن أعظم دواءٍ للإنسان هو أن يحبّ، ويغفر، ويمنح، ويبتسم للحياة مهما أثقلت عليه؟