عظيمة يا مصر (2)
في الوقت الذي يترقب فيه العالم أن تنجح المفاوضات بين حماس وإسرائيل في تجاوز عقبات نتنياهو وألاعيبه ورغبته الجارفة بعدم وقف الحرب في غزة، وبينما تتعقّد الحسابات الإقليمية والدولية في مشهدٍ ملتهبٍ بالدم والنار، تمضي مصر ــبثباتٍ تاريخيٍّ ومسؤولية حضاريةــ في طريقها الصعب لترويض اليمين الإسرائيلي المتطرّف، وكبح جماح حكومةٍ لا تؤمن إلا بمنطق القوة، ولا تُبصر سوى ما تُمليه غطرستها العنصرية.
لقد نجحت القاهرة، بحكمتها وحنكتها وميزانها الدقيق بين الصبر والحزم، في أن تفرض من جديد منطق العقل على الجنون، والسياسة على المغامرة، والضمير الإنساني على نزعة الإبادة، وأن تُجبر حلفاء تل أبيب على مراجعة حساباتهم، وفي مقدمتهم الإدارة الأمريكية التي بدت يومًا أسيرة مزاج رئيسها المتعجرف ترامب.
وهكذا استعادت مصر دورها التاريخي في كبح الانفجار، وضبط إيقاع المنطقة، وتأكيد أن الشرق الأوسط لا يُدار إلا من قلب القاهرة، وأن أيّ تسوية حقيقية لن ترى النور ما لم تمر عبر بوابتها الدبلوماسية.
غير أن هذا النجاح، رغم أهميته، لا يكفي وحده إذا بقي محصورًا في حدود السياسة؛ فالأخطار التي تهدد وجود الأمة تتجاوز حدود غزة والقدس إلى عمق كل بيتٍ عربي، وتستدعي من العرب روحًا جديدة توازي ذلك الجهد المصري روحًا تشبه روح أكتوبر التي جمعت القلوب، ووحّدت الصفوف، وصنعت النصر.
كم تمنينا أن تسري مثل هذه الروح الوثابة في المنظومة العربية، فتسارع لتحقيق التكامل الشامل، وتوظيف أوراق القوة، وما أكثرها، للحفاظ على وجود أمة باتت في مهب أطماع اليمين الإسرائيلي الذي لا يخفي أطماعه في أراضينا من المحيط إلى الخليج.
كنا نرجو لو تجاوبت الأمة وخصوصًا الدول القادرة منها، مع دعوات مصر لتكوين ناتو عربي يحمي الأرض ويحقق الردع ويحفظ للأجيال القادمة حقها في البقاء والاستقرار والرفاهية والأمن، ناهيك عن حسن توظيف الموارد لإحداث نهضة حقيقية في التعليم والبحث العلمي والصحة والأمن الغذائي والمائي..
ناهيك عن تغيير ثقافة المواطن ليجيد التعامل مع العصر؛ فيصير منتجًا مبدعًا وينعكس سلوكه في التعامل مع الممتلكات العامة ومع القمامة وانفلات الأسعار وفوضى الأسواق.
هذه الروح قادرة على صنع الفارق هنا في بلد الانتصارات، بإنهاء البيروقراطية المتجذرة في تربتنا والتي أفرزت منذ زمن طويل إدارة ثقافة لا تتجاوب مع التطوير بقدر ما تعيق فرص التقدم، وهو ما أنتج مشكلات كبيرة تسببت في تأخير الاستفادة المثلى من فرص الاستثمار وحرمان الوطن من فرص التقدم والإنتاج الحقيقي.
ذاكرة النصر ربما تخفت أو تذوي لكنها أبدًا لا تموت بل تبقى كامنة تنتعش حينًا وتتوارى أحيانًا.. لكنها لا تنسى أبدا كيف كسرنا غطرسة إسرائيل وجيشها الذي زعم أنه لا يقهر.. والدليل ما يرويه تاريخنا القريب حين انتفض هذا الشعب مستدعيًا مخزونه الحضاري وروحه الحضارية لتخرج ملايينه للشوارع، رافضة حكم جماعة الإخوان الفاشية ولم ترجع إلا بإزاحتها عن حكم مصر..
هنا أراد الشعب فاستجاب الجيش، ثم استجمع الاثنان هذه الإرادة في حفر قناة جديدة ومشروعات قومية عملاقة، انتظرنا أن تكون منصة إطلاق متجددة لروح أكتوبر لكننا للأسف غرقنا في التراخي واللامبالاة والجدل التافه وظهرت فينا روح كسولة ليست روحًا مصرية أصيلة ولا تمت لنصر أكتوبر بأي صلة.
فماذا حدث إذن.. ألسنا من صنع ثورة 30 يونيو بكل نجاحاتها.. ومن أنجز القناة الجديدة بكل صعوباتها.. ومن أصلح منظومة الكهرباء بكل تهالكها.. ومن أقام شبكة طرق عملاقة نباهي بها الدنيا.. ومن أصلح منظومة الخبز الذي طالما قاتل بعضنا بعضًا لأجل رغيف سقط بسببه ضحايا وشهداء؟!
سر النجاح هل يكمن في روح العسكرية المنضبطة التي لا تقبل بالنجاح بديلًا.. وتأبى التراخي والتواكل والعشوائية والروتين العقيم الذي تسبب في مآسينا؟!
ظني أن الروح العالية هي سر كل نجاح لقواتنا المسلحة.. وكل إنجاز تحرزه في زمن قياسي وجودة عالية.. وهي سر بقاء وتماسك هذه الدولة والحفاظ على مقومات وجودها حتى اليوم.. فإذا كان ذلك كذلك فلماذا لا نستنسخ أو نستلهم أو نبث هذه الروح في كل موقع وكل مشروع وكل مؤسسة من مؤسسات الدولة.. حتى لا نضيع طاقات وجهودًا هائلة بسوء الإدارة وغياب الإعداد والتدريب والمحاسبة؟!
وإذا سلمنا بأن ظروف أمتنا اليوم تشبه إن لم تزد سوءًا عن ظروف ما قبل أكتوبر 73 من استنزاف وضياع للهيبة والحقوق، فإن السؤال: أليس ما يهدد وجودنا أكبر من أن نغض الطرف عنه؟ ألسنا في مرمى نيران القوى الدولية التي تحارب فوق أرضنا معاركها هي وليس معاركنا نحن؟ أليس ما يحاك بنا ويراد لنا من تقسيم وتقزيم واستلاب صريح لمقوماتنا ومواردنا أسوأ مما كنا عليه قبيل نصر أكتوبر العظيم؟
أليست غطرسة نتنياهو المدعوم أمريكيًا وغربيًا وإصراره على إفشال كل محاولات وقف الحرب وحقن الدماء وإعادة الإعمار وإحلال السلام، كافية لقرع أجراس الخطر على مسامعنا نحن العرب حتى نفيق قبل أن نخرج نهائيًا من التاريخ ونصبح أثرًا بعد عين؟
أليست الأخطار التي تهددنا هنا وهناك أدعى لاستعادة روح أكتوبر التي ألفت بين قلوب العرب جميعًا؛ فناصروا مصر وسوريا، وتسابقوا لإمدادها بالمقاتلين والعتاد والسلاح وبكل دعم لوجيستي وسياسي لا محدود؟
ألا يكفي ما يحاك ضد أمتنا لاستنهاض روح العروبة والإرادة المنتصرة؟ ماذا ننتظر بعد الذي رأينا بأعيننا من ضياع دول وتجهيز المسرح لاستدراج أخرى لفخ معارك مفتعلة للإجهاز على ما تبقى من جيوشنا ودولنا التي نجت من فخاخ الخريف العربي؟!