الســاعــة 1405
بينما كان القتال يشتد ساعة بعد ساعة، وبينما كان أبطالنا يعبرون القناة، ويسحقون خط بارليف ويقتحمون الساتر الترابى، كانت حكايات الأبطال تنسج ملاحمها فى كل بقعة من بقاع الوطن، على الجبهة وفي الميدان وفي الشوارع والحوارى والأزقة.
لم يكن هناك مصرى واحد خارج إطار البطولة، حتى اللصوص في بلادى تابوا وأنابوا ولم يرتكبوا جريمة واحدة طوال أيام الحرب، قصص البطولات التى سجلتها الصحافة المصرية والمحررون العسكريون أكبر من أن تطويها أو تضمها صفحات.
قصة أول كتاب عن حرب أكتوبر صدر بعد أيام قليلة من العبور، كانت أيضا ملحمة، صلاح قبضايا المحرر العسكرى لدار أخبار اليوم، والذى شارك في حرب اليمن وأصيب فيها، وشارك في النكسة كان ضمن العابرين عار الهزيمة إلى إطلالة النصر العظيم.
الساعة 1405.. الساعة ألف وأربعمائة وخمسة هو أول كتاب تتلقفه أيادى المصريين بعشرات الآلاف من النسخ، التى قدمتها مطابع أخبار اليوم إلى جماهير الشعب المصري والعربي في ذاك الوقت الدقيق والمثير.
كانت المطابع تطبع وسيارات التوزيع تتنقل بين المحافظات، ودار التوزيع الخارجى تقدم المنتج الأهم في حينه، كما لو كان هذا العمل الصحفي المدهش أول إطلالات التوثيق الصحفي للملحمة الإنسانية العظيمة.
بين الحين والآخر أعود إلى تلك الطبعة القديمة أشتم فيها رائحة السادس من أكتوبر، عبق الورق يشى بما هو أبعد من السطور المنحوتة، وما هو أعمق من القصص المكتوبة، وما هو أبعد من دلالات الألفاظ الواردة على صفحات لا يمكن أن تكون من ورق.
“نَفَس” صلاح قبضايا المحرر العسكرى الذى اعترك الصحافة بين ميادين القتال تشعر به في الحروف والعبارات والجُمل المتقافزة، كقفزات الأبطال بين منحنيات الموت المحيط بكل عملية ينفذها أبطال مصر.
يبدأ الكتاب التاريخى بعبارات رشيقة تصف القرار الصادر من القائد الأعلى للقوات المسلحة، ثم يمهد للحظة الانطلاق التى طالما طال انتظارها، وبحرفية المحرر المتخصص في الشأن العسكري، يقدم لنا وصفا تفصيليا للحظة العبور العظيمة.
عبور من لحظة الانكسار إلى زمن الانتصار، عبور من عتمة الأيام المظلمة إلى نهار أبدى يعبر بالأمة مساحات الهزيمة، وينقلها إلى تاريخ جديد كتبه المصريون والسوريون، وكل قلب عربي انتفض وكل عرق عربي سرى فيه النبض الحي تعاطفا وتمسكا بمولود جديد.
التنقل بين فصول الكتاب بلغة متدفقة في لحظة كان فيها القارئ العربى ينتظر بلهفة، ليقرأ المشهد الذى لم تكن تتناقله شاشات الموبايل، بل كان كل مشهد يرتبط ببيان عملياتي تتناقله موجات الأثير في الإذاعة وصور متلاحقة بالتلفزيون.
“الساعة 1405” شهادة تاريخية للحظات الأولى، لحظات القمة الانفعالية أوردها صحفي متأنق، يدرك دقة ما يكتب في الشأن العسكري، شهادة تستطيع أن تعيد قراءتها آلاف المرات دون ملل، وكأنك تطالع جبهات الجنود الساجدة على تراب سيناء العزيزة.
ويبدو أن صلاح قبضايا -عليه رحمة الله- عاش أسير تلك الملحمة العسكرية العظيمة ولم يبرحها، فهو الذى عايش طفلًا العدوان الثلاثى على مصر، باعتباره ابنا بارا لبورسعيد، وعاش الأيام الصعبة في اليمن، وانتكس مع كل المصريين، وعاد من سيناء بصعوبة في 1967م.
كل هذه المعارك التى عاشها قبضايا تركت آثارها في تكوينه الصحفي وتركيبته ككاتب له شأن، فقدم للمكتبة العربية عددا من المؤلفات حول حرب أكتوبر من بينها “الخديعة“ و”المعركة الجوية” وعاش حياته يحكى لنا ولغيرنا كيف كنا وكيف أصبحنا كما لو كان مقاتلا يحمل سلاح الكلمة، مدافعا عن جيش ظلم ظلما كبيرا عندما اختزله البعض في النكسة.
عشت مع الدكتور صلاح قبضايا سنوات، وأنا أسأله كثيرا حول “أكتوبر” وما جرى فيها، وفى كل مرة كان يفاجئنى بقصة صحفية أكثر إثارة، فقد كان قريبا من كل أبطال أكتوبر، جنودا وقادة، عسكرا ومدنيين، ساسة ومتخصصين.
رحم الله صاحب أول كتاب عن حرب أكتوبر، ودعوة لكل من لم يقرأ “الساعة 1405” أن يستعيد تاريخ بلاده بقراءة متأنية لعمل اختلطت فيه المعلومات بالإحساس الإنساني والمشاركة الوجدانية النابضة.