حديث الأربعاء
الأخلاق في ذمة الله ولا عزاء للمتنطعين
قد لا تروق كلمة الأخلاق لبعض الناس ممن لا يؤمنون بأهميتها ولا بسلطتها الأدبية، تلك السلطة التي لا تحاسب كما يحاسبهم القانون بسلطته وأدوات تنفيذه وسلطة العُرف وأحكامه العرفية الملزمة منها، بينما الأخلاق لا تملك تلك السلطة المادية، لكن لو تأملنا في مفهوم الأخلاق لوجدناه أكثر فاعلية وأكثر فائدة للفرد ذاته وبالتالي للمجتمع ككل..
فمن يلتزم بمبادئ الأخلاق التزام ذاتي؛ يحمي نفسه من نفسه وشرورها وبالتبعية يأمنه من حوله ثم مجتمعه، لكن المؤسف أن يختزل البعض مفاهيم الاخلاق في المظهر العام والسلوكيات العامة، والبعض يقول بنسبية مفاهيم الأخلاق واختلافاتها من مجتمع لمجتمع ومن زمان إلى زمان، وحسب ثقافة هذا المجتمع أو ذاك..
كذلك نجد مَن ينسبون الأخلاق وكأنها أحد أركان الأديان ولا يؤمنون بأن الأخلاق ركن أساس من أركان الإنسانية عامة وأنها تخص كل الناس في كل مكان وكل زمان، بما للأخلاق من تأثير كبير في تهذيب الأفراد وبالتالي الشعوب والمجتمعات في تعاملاتها وعلاقاتها الإنسانية، ورغم تلك النداءات فعصرنا لايزال في احتياج كبير لثورة أخلاقية للتصدي لكل انحلال وفوضى أخلاقية..
فمتى اختل ميزان الأخلاق اختل ميزان مدفوعات كل الأحاسيس الراقية والرفيعة والمشاعر الصادقة والنبيلة بين البشر، في غياب الأخلاق لا تنتظر اعتدال ميزان المجتمع إنسانيا، فبين طغيان المادة الزائلة، واندثار القيم الأخلاقية؛ يبقى إنسان العصر حائرا، يتشدق بالأمل فوق جسور الأوهام وسراب أحلام المدينة الفاضلة أحلام يوتوبيا.
كثيرا ما تجد الأغلبية يهرول ذهابا وإيابا في نفس المسار، مسار ذل المادة وهوان البشر على البشر لا رقي في التعامل ولا أدب في التخاطب ولا صبر عند الصدام والعراك والمواقف المتأزمة بين طرفين فتجد الردود عنيفة والألفاظ نابية ولا كظم لغيظ ولو عفو عند مقدرة..
مع غياب شمس الأخلاق؛ نعاني في مجتمعاتنا من وهج ظلم واقع مرير، واقع تفاوتت فيه معايير الإنسانية معايير مضللة حسب شريعة الغابة ودساتير المساومات والمزايدات، واقع يتجاوز ويتغاضى عن جبروت الأقوياء، ولا يبالي أبدا لشأن الضعفاء، بل ويعترض طريقهم ويطغى عليهم ظلما وعدوانا، واقع يسرق أحلامهم ويسحل أمنياتهم.
وعلى مسمع ومرأى من مبادئ الشرعية الدولية المزعومة وميزان العدل المزدوج، وما هو حاصل لهو خير دليل وخير شاهد. ولا تندهش فما يحدث ليس نتيجة شيء غريب ولا بفعل كائنات غريبة هبطت علينا من العوالم الأخرى بل هو ما جناه الإنسان على ما تبقى من اطلال الاخلاق والإنسانية..
في السنوات الأخيرة اندلعت الثورات المعلوماتية عبر ميادين الشبكات العنكبوتية حتى ما يسمى بالذكاء الاصطناعي الذي لا أحد يجزم أنه يعلم له أول من آخر وما سيؤول إليه شبابنا معه وبناتنا، وما زالت مستمرة تلك الثورات التكنولوجية ولا أحد يعلم مداها، وبكل انعكاساتها سلبا وإيجابا، وإن كانت سلبياتها أكثر وأخطر!
فهي تزداد كل لحظة فتزداد معها معدلات القلق والتوتر بل والانفصام المجتمعي، لأنها استحوذت على عقل ووقت الناس من كل الأعمار، وصل مداها إلى دهاليز البيوت وأنفاق وأغوار بيوتنا، اقتحمت حياتنا بكل جرأة ووقاحة وقلة أدب وقلة حياء، فتضاعفت الانفعالات والعصبية والتوتر..
وتغيرت طبيعة العلاقات الإنسانية والتواصل البشري الطبيعي، واقع جديد وسلوكيات غريبة لا قِبل لنا بها، كل شيء يتغير حتى ذلك الكائن البشري من الأجيال السابقة يشعر بتلك المتاهة مع كل المتغيرات الطارئة، فليس في وسعه سوى الترحم على أيام البساطة وأيام نقاء السريرة والنيَّات الخالصة.
وللمتشددين والمغالين في مسألة الأخلاق نقول؛ ليس كل من حف شاربه وأعفى لحيته هو بالأخلاق ملتزم، وليس النقاب دليل قاطع على العفة والأخلاق، فالدين المعاملة الحسنة، والأخلاق نية صادقة يترجمها سلوك طيب وحكمة وموعظة حسنة، وتوافق الظاهر مع الباطن، وسلامة الضمير، ونظافة النفوس من كل لؤم وخبث ومفسدة، فالدين رحمة وتسامح، ثم قبول الآخر أيا كان معتقده ومذهبه، فالأخلاق كالإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل.
دمتم على خير ما دامت أخلاقكم.
Nasserkhkh69@yahoo.com