ولد الهدى (الحلقة السادسة عشرة).. رسول الله أُسوةٌ في الحِلم والعفو
في شهر ربيع الأول، أشرقت الدنيا بنور النبوة، ووُلد خير من وطِئ الثرى، سيدنا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك الميلاد الذي لم يكن حدثًا عابرًا، بل كان بداية لفجر جديد أضاء ظلمات الجاهلية، وأعاد للإنسانية رشدها، وأرشدها إلى صراط الله المستقيم.
في هذه السلسلة المباركة، نتفيأ ظلال السيرة العطرة، ونستعرض بعضًا من مناقب الحبيب المصطفى، وصفاته الخُلُقية والخَلقية، وشمائله التي مدحها رب العالمين، وأثنى عليها السابقون واللاحقون من أهل الإيمان.
حِلم رسول الله وعفوه
امتاز الرسل جميعا بالحلم والعفو، إلا أن سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كان القمة، والقدوة والأسوة الحسنة في هذا الجانب، وغيره من جوانب الامتياز البشري على سائر الأنبياء والبشر.
وتحفل السيرة النَّبويَّة وكتب السنة بمواقف الرَّسول الكريم في الحِلْم، ومِن ذلك: قصَّة الأعرابي الذي جبذ سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بردائه جَبْذَةً شديدةً، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بردٌ نجرانيٌّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ، فجبذه (جذبه) بردائه جبْذَةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البُرْد مِن شدَّة جَبْذَته، ثمَّ قال:يا محمَّد! مُرْ لي مِن مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ ضحك، ثمَّ أمر له بعطاء".
خيركم أحسنكم قضاءً
ويُروى عن أبي هريرة أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ، صلى الله عليه وسلم، يتقاضاه فأغلظ، فهمَّ به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوه فإنَّ لصاحب الحقِّ مقالًا". ثمَّ قال: "أعطوه سِنًّا مِثْل سِنِّه". قالوا: يا رسول الله، لا نجد إلَّا أمثل مِن سِنِّه، فقال: "أعطوه، فإنَّ مِن خيركم أحسنكم قضاءً".
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كأنِّي أنظر إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا مِن الأنبياء ضربه قومه فأدموه، فهو يمسح الدَّم عن وجهه، ويقول: ربِّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون".
وفي تفسير هذا الحديث، يقول النَّوويُّ: "فيه ما كانوا عليه صلوات الله وسلامه عليهم مِن الحِلْم والتَّصبُّر والعفو والشَّفقة على قومهم، ودعائهم لهم بالهداية والغفران، وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنَّهم لا يعلمون، وهذا النَّبيُّ المشار إليه مِن المتقدِّمين، وقد جرى لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم مثل هذا يوم أحد".
أحسن الناس خُلُقا
ويروي أنس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن أحسن النَّاس خُلُقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبيُّ الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، قال: فخرجت حتى أمرَّ على صبيان وهم يلعبون في السُّوق، فإذا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قابضٌ بقفاي مِن ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: "يا أنيس! اذهب حيث أمرتك". قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله. قال أنس: والله لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعتُ: لم فعلتَ كذا وكذا؟ ولا لشيء تركتُ: هلَّا فعلتَ كذا وكذا"؟!
وعن عائشة رضي الله عنها، أنَّها قالت للنَّبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ مِن يوم أُحُدٍ؟ قال: "لقد لقيت مِن قومك ما لقيت، وكان أشدُّ ما لقيت منهم: يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلَالٍ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلَّا وأنا بقرن الثَّعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلَّم عليَّ، ثمَّ قال: يا محمَّد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخْرِج الله مِن أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا".
“ذو الخويصرة”، جد الخوارج
وقال أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "بينما نحن عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يَقْسم قَسْمًا، إذ أتاه ذو الخُوَيصرة -رجل مِن بني تميم- فقال: يا رسول الله اعدل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلك! ومَن يعدل إن لم أعدل؟! لقد خبتُ وخسرتُ إذا لم أعدل، فمن يعدل؟!"، فقال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: يا رسول الله! ائذن لي فأضرب عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعْه، فإنَّ له أصحابًا يَحْقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقِيهم يمرقون مِن الإسلام كما يمرُق السَّهم مِن الرَّميَّة ينظر إلى نَصْله فلا يوجد فيه شيء، ثمَّ إلى رِصَافِهِ، فلا يوجد فيه شيء، ثمَّ ينظر إلى نَضِيَّة -وهو قِدْحه- فلا يوجد فيه شيء، ثمَّ ينظر إلى قُذَذِه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفَرْث والدَّم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثَدْي المرأة، أو مثل البَضْعَة تَدَرْ دَرُ، ويخرجون على حين فُـرْقة مِن النَّاس".
ويعلق أبو سعيد على هذا الحديث، قائلا: فأشهد أنِّي سمعت هذا مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أنَّ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه قاتَلَهم وأنا معه، وأمر بذلك الرَّجل فالتُمس، فأُتي به حتى نظرتُ إليه على نَعْت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت".
ويروي أنس رضي الله عنه، أنه: لما كان يوم الحديبية، هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثمانون رجلًا مِن أهل مكَّة بالسِّلاح مِن قِبَل جبل التَّنْعيم يريدون غِرَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم فأُخذوا، قال عفَّان: فعفا عنهم، ونزلت هذه الآية: "وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ" (الفتح: 24).