قصة الحوار الممنوع
على فجأة غادرنا الأستاذ الدكتور سامى عبد العزيز عميد كلية الإعلام الأسبق، أغلق من خلفه باب الحياة وترجل إلى حيث بارئه، وقد كان قبلها بيومين يحاضر في ندوة مهمة بمعرض الكتاب الدولى في دورته السادسة والخمسين حول الدولة المدنية فى مشروع الأستاذ على الشرفاء الفكري.
لم يصل سامى عبد العزيز إلى سن التقاعد رغم الرقم الكبير الذى وصل إليه في عداد العمر، كان دوما شابا في أفكاره، شابا في تطلعاته، قادرا على التعاطى مع الأجيال الجديدة بروح وثابة ومتجددة، لم تفارقه الابتسامة في أقسى لحظات حياته وقد كانت كثيرة.
عرفت الدكتور سامى عبد العزيز كأحد تلامذته في كلية الإعلام بجامعة القاهرة وتعلمت منه دروسا كثيرة، كان كصائد اللؤلؤ، يعرف قدر الأفكار التى تصادفه في الشوارع وعلى وجوه الناس، كان مبدعا في مجاله، تسويق الأفكار وإنتاجها وإقناع الجماهير بها والتزم أخلاقيا بكل أكواد صناعة الإعلان والتسويق، عكس غيره ممن حققوا المليارات على ناصية استهلاك المرأة والطفل في تلك الصناعة.
تخرجنا في كلية الإعلام وظل التواصل معه كواحد من هؤلاء الذين يراقبون أعمال تلامذتهم ويتواصلون معهم في كل صغيرة وكبيرة، كان حاضرا دوما بملاحظاته وأفكاره وإبداعاته في كل ما يخص الإعلام المصرى والعربى وكان في حالة احتكاك مباشر مع كل ما يجرى عالميا.
مرت سنوات نتلاقى بقصد وبغير قصد، ونتحادث وكأننا لم نبرح مدرج الكلية، هو كما هو، باسم الوجه، ضحوك، يحمل بين تعليقاته كل ملامح الأمل والتفاؤل، يضفى على محيطه أجواء من البهجة التى لا تخلو من نصائح غير مباشرة يتركها معك فى طريق الحياة لعلها تكون شمعة تضيئ لك.
تابعنى في مشوارى بجريدة الأحرار -أول صحيفة معارضة في مصر- وكثيرا ما كان يبدى ملاحظاته حول أدائى وتعلمت منه كيف أعيش صحفيا لا مناضلا سياسيا أو منغلقا حول أفكار حزبية تقيد من الأداء الصحفى لكل من يعمل برسالة الصحافة.
عندما شرعنا في إصدار «فيتو» بعد سقوط نظام مبارك فوجئت باتصال منه يطلب العنوان للزيارة، زارنا الدكتور في مقر صغير، كنا ما زلنا فى جلسات العصف الذهنى لإصدار صحيفة جديدة ومتجددة في أفكارها وبنيانها وطريقة تعاطيها مع الأحداث الساخنة في ذلك الوقت عقب سقوط النظام.
أعلن في غير مداراة أنه منبهر بالأفكار الجديدة التى نطرحها يوما بعد يوم، ولم يتوقف عن إعلان ذلك عند حد التشجيع بل طلب القيام بتصميم حملة الصدور، وكان اسم «فيتو» غريبا على الأسماع، ومع حضوره جلسات النقاش أيقن الرجل أننا توقفنا طويلا حول الأسس الصحفية التى ننوى القيام بها في صحيفة أسبوعية تصدر بينما زخم الأخبار بحر هادر من الأحداث.
أتذكر جيدا في واحدة من ليالى السهر الطويلة وبعد ساعات من النقاشات، اتصل بى الدكتور سامى بعد منتصف الليل ليخبرنى أنه توصل إلى «سلوجان» فيتو أو شعار الصحيفة الجديدة.. «فيتو.. لو الحكاية فيها إنّ».. هكذا أبهرنا الرجل ووضع لنا كودا محددا للعمل وفق معناه.
انطلقت فيتو بحملة تسويقية ناجحة من بنات أفكار الدكتور سامى وبفضل الله حققت نجاحا شهد له الجميع، وفي العام التالى للصدور تواصلت معه وطلبت لقاءه.. فاتحته في فكرة تدشين موقع خبرى لـ«فيتو».. تحادثنا طويلا حول التحديات التى تحيط بنا وتركته بعد الإنصات إلى جملة من نصائح مهمة من معينه الذى لا ينضب.
بعد أيام قليلة اتصل بى لتحديد موعد للزيارة، زارنا الدكتور سامى ومعه نخبة من شباب واعد كانوا يعملون معه في مؤسسته التسويقية، على الفور عقدنا اجتماعا كنت فيه المستمع له ولفريق عمله، بعدها شرعنا في تدشين «فيتو» كبوابة خبرية تنافس الكبار فى حينها.
ومنذ شهور قليلة أجرينا حوارا مع الأستاذ حول المشهد الإعلامى المصري، وكان الرجل صريحا إلى حد بعيد، وحرص على مراجعة الحوار بعد إخراجه على الصفحات، وقبيل النشر بيومين اتصل بى راجيا عدم نشر الحوار في هذه الأيام، استجبت لطلبه وبعد أيام تلاقينا دون أن يفسر لى السبب غير أنى كنت بحكم خبرتى على علم بمسببات قراره في عدم النشر.
مضت بنا سنوات العمر ونحن على تواصل دائم، وفي تواصله كان دوما كريما في عطاياه الفكرية ومنحه العلمية وبعض مديح كنت اعتبره مددا في رحلة العمل يقدمه الرجل بلا مقابل، رحم الله الأستاذ والمعلم والمعطاء الدكتور سامى عبد العزيز الذى لم ينضب معين أفكاره حتى اللحظات الأخيرة من أيامه على الأرض.