فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

يريفان عاصمة لها تاريخ (الأخيرة).. قلعة السنونو

في أجواء شتوية تكاد تلامس فيها درجات الحرارة ما دون الصفر بأربع درجات، انتهت أعمال المنتدى العالمي الخامس لمكافحة الإبادة الجماعية بتوصيات مهمة حول خلق أدوات إنذار مبكر للتنبيه قبل وقوع الجريمة ضد الإنسانية.. كان الحضور من راحوا من الأرمن والروهينجا ودارفور، وفي القلب منهم ضحايا غزة.

خرج المشاركون الدوليون في أعمال المنتدى إلى الربوة العالية “تسيتسيرناكابيرد” أو قلعة السنونو التي أقيم فوقها النصب التذكاري في العام 1965م لمذابح الأرمن على يد القوات التركية.. في الوسط شعلة أبدية لا تنطفئ تمثل الروح الأرمينية.
 

وقلعة السنونو سميت على اسم طائر يعود دائمًا إلى عشه، حتى لو دُمر منزله. جزء فريد من النصب التذكاري هو العمود الطويل على شكل إبرة بجواره، والذي يمثل ولادة الشعب الأرمني من جديد، يحيط اثنا عشر عمودًا مهيبًا - تمثل المقاطعات الاثنتي عشرة التي قُتِل فيها الأرمن - بالشعلة التذكارية الأبدية داخل النصب التذكاري.

كان مشهد الحضور مهيبًا، وبيد كل مشارك مجموعة من الزهور وضعت حول الشعلة التي تتوسط الرمز. مشهد جنائزي كأن الجريمة جرت وقائعها للتو، كان الحضور كثيفًا. تصاحبنا مرشدة لا تحكي تاريخ الجريمة المروعة بل تنحتها نحتًا في ذاكرة الجميع، يتخلل صوت المرشدة قليلًا من حشرجة الحسرة والذكرى والخلود لأرواح الضحايا.

في الذكرى الخمسين للإبادة الجماعية الأرمنية عام 1965، اندلعت مظاهرات حاشدة في جميع أنحاء جمهورية أرمينيا السوفيتية، مطالبة بإقامة نصب تذكاري، مما أدى إلى قرار الحكومة ببناء نصب تسيتسيرناكابيرد التذكاري. 

ومنذ ذلك الوقت، يحيي الآلاف من الناس ذكرى الإبادة الجماعية الأرمنية كل عام في 24 أبريل بزيارة النصب التذكاري، وعلى مدى العام، يزور المزيد من الناس مجمع تسيتسيرناكابيرد التذكاري، الذي يضم متحفًا للإبادة الجماعية ومعهدًا للأبحاث.

في الناحية اليسرى بمقدمة النصب تصل إلى متحف الإبادة بسلم ينزل بك أكثر من عشر درجات من السلم تحت الأرض، بإضاءات خافتة وجوانب مظلمة تحكي الجدران وقائع المأساة الإنسانية لمذابح الأتراك ضد الشعب الأرمني، أفلام وثائقية من واقع المجزرة تشير إلى أن ما جرى لا يمكن نسيانه أبدًا.

صحف أرمينية وتركية وعربية قديمة تنقل وصفًا تفصيليًّا لما حدث. كتب وضعها مخلصون للإنسانية تحكي فصول المأساة. صور لأطفال يساقون إلى الموت بلا رحمة، ونساء يسُقن إلى حيث التهجير حفاة عراة إلا من قليل وجنود أتراك مدججون بالسلاح يحرسون موكب الموت إلى أرض مجهولة.

من هنا كان الموت والتدمير، وكان الشتات الذي تعيشه أجيال وراء أجيال في عواصم أكثر من اثنتي عشرة دولة يعيش فيها أكثر من ثمانية ملايين أرمني خلعوا من جذورهم، وظلوا في البلدان البديلة يعيشون تفاصيل الكارثة التي أحاطت بآبائهم وأجدادهم.

هنا قلعة السنونو، نداد الطائر الذي يرفض الغربة والاغتراب، وهنا دفتر أحوال واحدة من المآسي الإنسانية التي حفرت تفاصيلها في ذاكرة أجيال عاشتها وراحت ضحيتها، وأجيال جديدة ترفض طي صفحاتها قبل الاعتراف الدولي بما ارتكبته تركيا العثمانية ضد شعب أعزل.