رئيس التحرير
عصام كامل

ماركسي «على سنة الوطن»..جلال أمين: بدأت علاقتي بـ«الماركسية» بقراءة «المادية الجدلية والمادية التاريخية».. ودخلت مرحلة الإعجاب في «أيام الجامعة»

جلال أمين
جلال أمين

كانت بداية قصتي مع الماركسية هي نفس بداية كثيرين من المثقفين المصريين وغيرهم، وهي الوعي بالمفارقة الصارخة في المجتمع بين غنى الأغنياء وفقر الفقراء، والذي أذكره أن وعيي بهذه المفارقة، وأنا في نهاية دراستي الثانوية أو بداية دراستي الجامعية، كان كافيا لأن أفتح الموضوع وأعيد فتحه في حديثي مع أخي حسين، فإذا به ينصحني بقراءة كتاب صغير أخرجه من مكتبته، عنوانه " المادية الجدلية والمادية التاريخية " والمؤلف جوزيف ستالين. كان كتابا مترجما إلى العربية ومنشورا في بيروت. لم أفطن في البداية ماذا يمكن أن تكون العلاقة بين مشكلة الغنى والفقر وبين عنوان فلسفي كهذا، مادية وتاريخية...إلخ، ولكنى قرأته وأعجبت به أيما إعجاب وأدركت العلاقة بينه وبين مشكلة الغني والفقر.


>> مرحلة الإعجاب بـ"الماركسية"
كانت هذه هي بداية إعجابي بالماركسية وتقديري لأهميتها، وهو إعجاب وتقدير لازالا معي إلى حد كبير حتى اليوم، على الرغم من أنى مع مرور الوقت وصلت إلى إدراك عيوب وأخطاء كثيرة فيها مما لا يمكن معه أن أصف نفسي اليوم بأني ماركسي.

بدأت اقرأ الماركسية على نحو متقطع خلال سنوات الجامعة، وكان كل ما قرأته في تلك الفترة مكتوبا باللغة العربية، ومعظمه كان منشورا في بيروت. كان الناشرون اللبنانيون قد اكتشفوا قبل غيرهم فرص الربح الكامنة في نشر ترجمات عربية للكتب الماركسية في ذلك الوقت، أي طوال الخمسينات؛ لما كانت تحظى به التجربة السوفيتية من إعجاب متزايد من المثقفين العرب، وفى فترة يكثر فيها الكلام عن العدالة الاجتماعية والصراع الطبقي، وفي بداية حرب باردة يتعرض لها المعسكر الاشتراكي لهجوم قاس من جانب الغرب فيزيد من جاذبية الاشتراكية في نظر مثقفي العالم الثالث.

>> كتب " سيئة الترجمة"
كانت الغالبية العظمى من هذه الكتب المنشورة في لبنان مترجمة ترجمة سيئة للغاية وقد سمعنا أن الكتاب كان يوزع فصولا بين عدة مترجمين حتى تتم ترجمته في أقصر وقت، ولا يهم بعد هذا إذا كان الكتاب مفهوما تماما أو غير مفهوم، وما إذا كان اصطلاح ما قد ترجم بكلمات عربية مختلفة في فصول مختلفة. ومع ذلك فهمت الكثير مما قرأت، وكنت ألوم نفسي على عدم فهمي للباقي، وهو ما أدرك أنه ظلم فادح لنفسي إلا بعد سنوات.

إلى جانب هذه الكتب كنت، كغيري، مدينا بشدة لاقتصادي ماركسي مصر ( الدكتور راشد البراوى ) كان غزير الكتابة والترجمة، ويجيد العربية، فقدم لنا كثيرا من أعمال ماركس وانجلز، مترجمة ترجمة جيدة ومفهومة تماما بما في ذلك بعض الخطابات المتبادلة بينهما، وجزءا كبيرا من كتاب ماركس الأساسي ( رأس المال ).

أعتقد أنه لم يطرأ على موقفي من الماركسية تغير يذكر منذ ذلك الوقت، أي منذ 1962 أو 1963 وقد عبرت عن هذا الموقف بشكل مختصر في كتابي " مقدمة إلى الاشتراكية، مكتبة القاهرة الحديثة 1966 ".

إني أعتبر هذه الفترة من القراءة الماركسية، حينما كانت سني تتراوح بين العشرين والثانية والعشرين، من الفترات التي تركت فيها قراءاتي أثرا دائما في تكويني العقلي. نعم كل ما يقرأه المرء لابد أن يترك أثرا كبيرا أو صغيرا، محسوسا أو غير محسوس، ولكن هناك بعض القراءات وبعض الكتب اللتين تتركان أثرًا يشعر به القارئ بوضوح، ويظل معه وقتا طويلا. كانت قراءاتي للماركسية في ذلك الوقت،بلا شك، من هذا النوع.


اشتد حماسي للماركسية أثناء دراستي لدبلوم الاقتصاد ( 1956- 1957 ) إذ طلب منا أحد أساتذة الدبلوم اختيار موضوع لكتابة بحث فيه، وعرض علينا بعض الموضوعات كانت الماركسية من بينها، فكتبت بحثا عن المادية الجدلية والمادية التاريخية في نحو 50 أو 60 صفحة تداوله بعض أصدقائي الذين كانوا يتوقون لمعرفة المزيد عن الماركسية. وأبدوا إعجابهم بي فاعتبرته بحثا جيدا. ولكن البحث كان يعتمد فقط على كتب عربية، مؤلفة أو مترجمة، وكان هذا يحد بشدة من معرفتي بدقائق الماركسية ومشكلاتها ومن ثم فإني بمجرد أن اجتزت امتحان التأهيل في السنة الأولى من سنوات بعثتي في إنجلترا، وبدأت الدراسة للماجستير، ووجدت لدى من الوقت ما يسمح لي بالقراءة من جديد في الماركسية، عدت إلى القراءة فيها بحماس، وأذكر أنى في لحظة، صنفت الكتب التي تقف على رفوف مكتبتي الصغيرة في حجرتي بلندن، إلى كتب تحتوي " الحقيقة" وهى الكتب الماركسية وكتب "ضالة" هي الكتب غير الماركسية.

>> الشك في "الصدق الكامل للماركسية"
استمر موقفي على هذا النحو نحو سنتين أو ثلاث قرأت خلالها ما جعلني أبدأ في الشك في " الصدق الكامل " للماركسية، وتطور هذا الشك إلى اليقين بأن الماركسية وإن كانت تحتوى على أفكار مهمة وصحيحة فإنها لا تصلح كعقيدة، كما أيقنت بأن الجزء الفلسفي منها ( المادية والجدلية) أقرب إلى اللغو منه إلى وصف الحقيقة أو العلم كما يظن الماركسيون.

أحسست فجأة بأني حققت هذا " النظام " من مرحلة الماركسية عند قراءتي لمقال معين، ولكتاب معين. أما المقال الذي أذكر تأثري الشديد به وحماسي القوى بمجرد الانتهاء منه فكان بعنوان " ما الديالكتيه" (what the dialectice) نشرته مجلة (mind) في الأربعينات، ونسيت اسم الكاتب ( ولكن لعله " Sidney Hook".

وأما الكتاب الذي طرت به فرحا وتقديرا فهو لكاتب انجليزي رائق الفكر وواضح الأسلوب هو " H.B.Acton" واسم الكتاب " وهم العصر " ويقصد بهذا الوهم الماركسية.

كانت القراءات التي ساعدت على تقوية هذه الشكوك لدى في الماركسية متعددة المصادر والأنواع، ولكن كان أهمها ما أقنعني بأن النظام الاشتراكي، كما كان يطبق بالفعل في أوربا الشرقية، والنظام الرأسمالي، بينهما أوجه ما هو أهم بكثير مما نظن، وان السبب الرئيسي لذلك الشبه يرجع إلى ما يمكن اعتباره من قبيل " الحتمية التكنولوجية"، بمعنى أن تطبيق تكنولوجيا من نوع معين، مهما كانت إدعاءات النظام سياسية، وأيا كان وصف النظام لنفسه، لابد أن يؤدي إلى نتائج مشابهة في التنظيم الاجتماعي والسياسي.

كان من أهم القراءات التي لفتت نظري إلى هذا بوضوح كتاب " ريمون أرون" (R. Aron) الشهير عن المجتمع الصناعي، وهو رأي يجد تأييدا له حتى في كتابات ماركس نفسه، وان لم يكن الماركسيون على استعداد للاعتراف به. وقد كان يعجبني دائما قول لماركس مؤداه إنه " كما أنك يجب ألا تصدق كل ما يقوله شخص عن نفسه. فانك يجب ألا تقبل كل ما يصف به عصره".

أعتقد أنه لم يطرأ على موقفي من الماركسية تغير يذكر منذ ذلك الوقت، أي منذ 1962 أو 1963، وقد عبرت عن هذا الموقف بشكل مختصر في كتابي ( مقدمة الاشتراكية ).

كان موقفي من الماركسية منذ ذلك الوقت معقدا بعض الشيء،إذ كنت متعاطفا تماما مع التفسير الماركسي للتاريخ ومع التحليل الماركسي لظاهرة الاستغلال الاقتصادي ومع الملكية العامة لوسائل الإنتاج وإعادة توزيع الدخل، ولكني كنت قد فقدت أي حماس للفلسفة الماركسية " بالمعني الضيق للفلسفة "، بتأثير فلسفة الوضعية المنطقية، وصرت أعتبر الجدلية أقرب إلى الأدب أو الشعر منها إلى التحليل العلمي كما لم أعد متعاطفا بالمرة مع نظرية العمل في القيمة تحت تأثير مختلف الانتقادات التي وجهت لها من اقتصاديين كبار قرأت لهم أثناء دراستي بإنجلترا وبالذات انتقادات النمساوي " بوم بافريك " ( Bohm – Bawerk) في كتابه " كارل ماركس ونهاية النظام الفكري " والاقتصادية الإنجليزية " جون روبنسون ط في كتابها " مقال في الاقتصاد الماركسي ". واستقر رأيي على أن مسايرة ماركس في رفضه وكراهيته للاستغلال لا تلزم المرء بقبول نظريته في تفسير الأسعار، وأن من الممكن أن يقبل المرء نظرية العرض والطلب كأفضل نظرية في تفسير الأسعار ويكون اشتراكيا في نفس الوقت، وان من الممكن أن يعلي المرء من شأن العمل الإنساني ويمجده دون أن يسمح له بالتدخل ونحن نشرح نظرية السعر.

هذا الموقف من الماركسية لا يري الشيء أبيض تماما وإما أسود تماما، وان لم يمنعني من التعاطف مع الماركسيين المصريين بوجه عام، بعضهم أكثر من بعض، منعهم هم من التعاطف معي، جريا على ما درج عليه معظم الماركسيين من لأن " من ليس معنا فهو ضدنا " ولكن زاد غيظي أن معظمهم لم يبدوا اهتماما يذكر بقضية الحريات والديمقراطية، جريا أيضا على عادتهم في التركيز على البعد الاقتصادي للحرية، مع أن مصر في منتصف الستينات كانت قد ذهبت في الأخذ بنظام الملكية العامة، وفي إعادة توزيع الدخل إلى مدى ربما لم يكن هناك أي مصلحة في ذلك الوقت في تجاوزه.

كان من الواضح لي في منتصف الستينات أن القضية الأساسية في مصر هي قضية الديمقراطية والحريات الشخصية وليست قضية مزيد من التأميم أو مزيد من إعادة توزيع الدخل، وقادني هذا الرأي إلى الاعتذار عن تدريس مقرر الاشتراكية في كلية الحقوق بعد أن درسته ثلاث سنوات،وكذلك الاعتذار عن الاشتراك في أي لجنة أو اجتماع أدعي إليه من أي منظمة حكومية كالاتحاد الاشتراكي العربي، إذا خمنت أن الغرض الأساسي هو ما كان يوصف " بدعم الاتجاه الاشتراكي" أو " نشر الوعي بالاشتراكية"...الخ.

كان هذا هو موقفي في منتصف الستينات، ثم أتيحت لي الفرصة بعد ذلك لبلورته وزيادته وضوحا. ذلك أنه في السنوات التالية مباشرة لعودتي من البعثة، كان جمال عبد الناصر قد أطلق سراح الماركسيين المعتقلين وعينهم بمجرد خروجهم من السجن في مناصب رفيعة كلها تتعلق بالثقافة والنشر. إن هذا الأمر يبدو الآن مدهشا للغاية: أن تضع كبار الماركسية في السجن لمدة خمس سنوات (1959 – 1964)في الوقت الذي تطبق فيه أفكارهم وتصدر القوانين الاشتراكية التي كانوا ينادون بها،ثم تطلق سراحهم فجأة بمناسبة قدوم الرئيس السوفيتي خروشوف إلى مصر للاحتفال بانتهاء بناء السد العالي، وتقوم بتعينهم في تلك المناصب الرفيعة. لا يبدو لي أن هناك تفسيرا مقنعا لهذا إلا تحول سياسة عبد الناصر من علاقة " وطيدة" بالأمريكيين إلى علاقة " وطيدة" بالسوفيت، وان كنا لم ندرك هذا في ذلك الوقت.

كانت نتيجة هذا التحول في سياسة النظام المصري ازدياد تأثير الماركسيين في الكتابات السياسية والنقدية، بل سيطر الماركسيون على حركة النقد الأدبي في مصر سيطرة تكاد تكون كاملة. وقد ضايقني هذا التأثير وتلك السيطرة إلى درجة دفعتني إلى أن أقصد سكرتير الجمعية المصرية للاقتصاد ( الدكتور جمال العطيفى ) وكان رجلا نشيطا ومسئولا عن جمعية نشيطة وتصدر مجلة محترمة ربع سنوية وهى " مصر المعاصرة " يعود تاريخها إلى بداية القرن، وعبرت له عن رغبتي في أن ألقى محاضرة عامة في الجمعية في نقد الفلسفة الماركسية. كان الرجل أقرب إلى اليمين منه إلى اليسار ولكنه كان أيضا رجلا سياسيا ماهرا يعرف طبيعة المرحلة التي يمر بها النظام المصري وقربه من الماركسيين، فوافق على طلبي بشرط أن يعطى محاضرتي لأحد الماركسيين الكبار للتعليق عليها ثم يقوم بنشر المحاضرة والتعليق في مجلة الجمعية. وافقت على شرطة، واذكر اننى قضيت شهرا أو شهرين لا هم لي إلا التفكير في المحاضرة والقراءة استعدادا لها، فلما كتبتها وألقيتها في النهاية بدت لي جيدة للغاية، ولازلت أعتبرها كذلك حتى الآن، على الرغم من اننى أعطيت نسخة منها للدكتور " زكى نجيب محمود " لإبداء رأيه فيها فقال لي ما يدل على أنها لم تعجبه لأني " ظلمت فيها الماركسية ".

لم تقنعني ملاحظات د. زكى نجيب، ولكنها لم تقلقني أيضا وعلقت أهمية أكبر على ما يمكن أن يأتي من ردود من جانب الماركسي الكبير الذي أرسل له د. العطيفى المقال.

كان هذا الماركسي الكبير هو الدكتور فؤاد مرسي الذي كان معروفا وقتها كواحد من أهم المفكرين الماركسيين المصريين، وكزعيم يشار إليه بالبنان من الشيوعيين.

فوجئت بأنه كتب تعليقا أطول من مقالي، ونشره د. العطيفى في نفس العدد الذي نشر فيه مقالي - إمعانا منه في الحرص على عدم إغضاب الماركسيين )، ولكنى فوجئت أيضا بالحدة والقسوة اللتين اتسم بهما رد د. فؤاد مرسي، وكنت أكثر تسامحا مع ما يكتبه. على أي حال، كان تعليقه مثالا جديدا لحدة معظم الماركسيين وثقتهم المطلقة بأنهم يحيطون بالحقيقة كلها، فضلا عن إعجابهم الشديد بأنفسهم بسبب وقوفهم إلى جانب الطبقات الكادحة.

ألقيت المحاضرة في نقد المادية الجدلية في جمعية الاقتصاد في مايو 1967، أي قبل حرب يونيو بأسابيع قليلة، ونشرت في مجلة الجمعية ( مصر المعاصرة ) في عدد أكتوبر 1967فى نحو عشرين صفحة، ومعها مقال د.فؤاد مرسي بعنوان ( محاولة هدم الاشتراكية العلمية عن طريق هدم الجدلية ) في نحو أربعين صفحة. وقد أعدت نشر مقالي في كتاب صدر لي في 1970 خصصته كله للماركسية بعنوان ( الماركسية: عرض وتحليل ونقد لمبادئ الماركسية الأساسية في الفلسفة والتاريخ والاقتصاد ) ونشره لي ناشر صغير ( مكتبة سيد عبد الله وهبة ) لم يكن يتوقع لنفسه ربحا يذكر من الكتاب ولكنه نشره إرضاء لي باعتبار أنه ينشر لي كتبي الجامعية مضمونة الربح.

كان الكتاب يعتمد في أجزاء منه على ما سبق لي أن نشرته في كتابي ( مقدمة إلى الاشتراكية ) مع تحسينها والإضافة إليها، فضلا عن محاضرتي في نقد المادية الجدلية وردى على تعليق الدكتور فؤاد مرسي.

استخدمت في ردي على تعليق د. فؤاد مرسي بعض الحدة مثلما فعل هو، وضمنته من السخرية أكثر مما كان في تعليقه هو. وعندما اقرأ الآن هذا الرد لا أجد أنى بعدت عن الصواب، كما أجده قد عبر تعبيرا صحيحا عن رأيي في الماركسيين بصفة عامة، وأذكر من هذا التعقيب لومي للدكتور مرسي على عبارة معينة وردت في رده ولم أجد لها لزوما بالمرة.

كنت قد تسألت في مقالي عما كان يمكن أن يقوله لينين،وهو على رأس الدولة السوفيتية، لو جاء رجل وردد أمامه ما يقوله أصحاب المادية الجدلية باستمرار من أن التغير المستمر هو سنة الحياة، وذلك أثناء تدليلي على أن القول بالتغير المستمر أو الحركة المستمرة ليس دائما في مصلحة التقدم إلى الأفضل، فقد يستخدم لإرجاع الأمور إلى الوراء. كان رد د. فؤاد مرسي على هذا قوله " إنه لو جاء رجل إلى لينين لقول له مثل هذا القول لقطع الشعب رقبته". وقد استغربت في تعقيبي أن يغضب د. مرسي كل هذا الغضب، وقلت إن الموضوع يمكن أن يسوى بالحوار دون أن يحتاج أحد لقطع رقبة أحد.

أغضب كتابي " الماركسية " من قرأه من الماركسيين وقرروا أنه لم يعد يرجي مني خير، وكنت أتوقع ذلك ولم أبال به. ولكن ما استغربت له جدا واعتبرته فيما بعد أمرا طريفا للغاية، أن صديقا لي كان قد اعتنق الماركسية منذ سنوات قليلة، اتصل بي تليفونيا بعد أن قرأ الكتاب وقال لي ما معناه إني ارتكبت خطأ جسيمًا ومؤسفًا للغاية.

استغربت هذه المكالمة لأني لم أكن أظن أن صديقي هذا قد وصل حماسه للماركسية إلى هذه الدرجة. أما الطريف في الأمر فهو أنه بعد نحو عشر سنوات من هذه المكالمة أصبح متدينا للغاية وبلغ حماسه ضد الماركسية نفس ما كان عليه حماسه لها قبل عشر سنوات.

كان يبدو لي في 1970 أن أنشر كتاب في نقد الماركسية دون المساس بالفكرة الاشتراكية _ على نحو ما فعلت في كتابي _ عمل مفيد في ظروف مصر في ذلك لوقت حيث كانت الحكومة تردد شعارات قريبة من شعارات الماركسيين لتبرير ما تفرضه من قيود على الحريات. ولكن هذا الكتاب لم يلق رواجا بسبب هذه الظروف نفسها، وبسبب صدوره من دار نشر صغيرة وغير معروفة فضلا عن استمرار سيطرة الماركسيين على حركة النقد الثقافي. كنت ولا أزال أعتبره كتابا جيدا،واعتبر ما تضمنه من نقد للفلسفة الماركسية من أفضل ما كتبت، كما أن ما تضمنه من شرح ونقد لنظرية القيمة الماركسية كان جديدا بالمقارنة بما كتب عنها باللغة العربية. ولكن لم يمض وقت طويل على اعتلاء أنور السادات الحكم في نفس السنة التي صدر فيها الكتاب، حتى تحول الماركسيون من موقع يتمتعون فيه برضا السلطة إلى موقع يعانون فيه من تجبرها وطغيانها. كما بدأت الاشتراكية نفسها تتعرض في مصر لخطر شديد بعد تدشين سياسة الانفتاح الاقتصادي في عام 1970 لهذا لم أر من المناسب، لا من باب اللياقة ولا من باب المصلحة الوطنية، أن أعيد طبع الكتاب ونشره بطريقة تجعله أكثر ظهورا وانتشارا. وقد ظلت الاشتراكية في مصر تتعرض للهجوم المتتالي وتتراجع خطوة بعد أخرى في بقية السبعينات وطوال الثمانينات، حتى سقط الاتحاد السوفيتي نفسه ومعظم النظم الاشتراكية الأخرى مما جعل الناس يزهدون في قراءة أي شيء عن الماركسية سواء بالمدح أو بالذم.
الجريدة الرسمية