رئيس التحرير
عصام كامل

جمال حمدان اختار العزلة أسلوباً للاحتجاج

 الصحفى صلاح عيسى
الصحفى صلاح عيسى

منذ أكثر من عشرين عاماً، وبعد وفاة عالم الجغرافيا، كتب الصحفى صلاح عيسى، مقالاً يرثى فيه العالم الجليل قائلا:

شعرت بأسف بالغ وحزن عميق، وأنا أقرأ خبر وفاة الدكتور جمال حمدان، وشعرت بأسف بالغ وحزن عميق وبدت لى تفاصيله غريبة وغير مفهومة ولا مألوفة مع أنها كثيرة التكرار على صفحات الصحف، فلا يكاد يمر يوم دون أن تنشر نبأ عن اشتعال مفاجئ فى أحد المواقد التى تستخدم غاز البوتاجاز، مما يودى بحياة فرد أو عدة أفراد، وهو ما حدث للدكتور حمدان.


وعلى عكس ما بدا لى لأول وهلة، فلعل الدكتور حمدان كان من الناحية المنطقية المجردة يعيش فى ظل ظروف تجعل احتمال موته بهذه الطريقة أو ما يناظرها وارداً فقد أغلق على نفسه باب مسكنه وظل يعيش وحيداً تماما بين وجدانه الضيفة، ثلاثين عاماً، لا يغادره ولا يتسقبل فيه أحداً ولا يتنصل منه بأحد، فليس لديه هاتف ولا يملك تلكس أو فاكس، وليس لديه جهاز تليفزيون يشاهد الناس على شاشته ليتخفف برؤياهم من إحساسه بالوحشة إلا من حارس العقار يشترى له طلباته، والطاهى الذى يمر عليه مرة كل أسبوع يعد له طعامه.

والمبررات المعلنة لموقف جمال حمدان كانت معروفة فى حياته، فما حدث هو أن أستاذ الجامعة قد تخطته الترقية ومنحت الدرجة لغيره لأنه كان أكثر ولاء من الناحية السياسية، وإن كان أقل كفاءة من الناحية العلمية، ومع أن الجامعة استدركت خطأها بعد قليل فأنشأت درجة استاذية أخرى رقته إليها إلا إنه لم يقبل تلك المساوامة ولم يقبل أن يسبقه زميله فى كشف الأقدمية فى الدرجة وامتنع عن إلقاء دروسه على طلبته واستقال من الجامعة وعاد إلى مسكنه وأغلق عليه بابه ولم يغادره إلا إلى القبر.

وسوف يقول البعض إن العقلية التى واجهت حمدان هى أمر عادى، فلم يكن أول الذين أهدرت حقوقهم فى الجامعة أو فى غيرها، وكان فى استطاعته أن يكون أكثر عملية، فيحنى رأسه للعاصفة إلى أن يتمكن من الالتفاف حولها وهو الأسلوب العادى الذى درج عليه كثيرون، ولكن أما وقد أصر حمدان على أن يغادر الجامعة احتجاجا على هذا العادى الذى ليس نادر الحدوث، فإن الأمر لم يكن يتطلب اعتكافه الطويل.. ولكن ما يدهشنا أنه ترك الجامعة الرسمية لينشئ جامعة أهلية فى منزله الذى لزمه ثلاثين عاماً؟؟، على احتلال القيم وانقلاب المعايير لكنه بحث ودرس وألف الكتب ونشرها وقرأها عموم المثقفين، تثير الاهتمام بعمقها الذى تخطى الحدود القطرية والقومية إلى آفاق العالم فتجدد الاهتمام بمأساته ويعتد الحديث عن أسبابها.

هنا اختار الدكتور جمال حمدان أسلوباً فريداً واستثنائياً للاحتجاج على ذلك الأمر، الذى يبدو أنه عادى، مؤكداً لنا مقولة بريخت «لا تقولوا إن هذا شىء عادى.. حتى لا يأتى يوم لصبح فيه الاستثناء هو القاعدة.. فلم تكن المسألة مسألة ترقية ولم يكن ما فعله احتجاجاً على ما جرى له، فقد كان بمواهبه يستطيع أن يحصل على ما يستحقه بأيه وسيلة ولم يكن احتجاجه انسحاباً من العالم، لأنه لو كان كذلك لحرق مكتبه ولكف عن البحث والتأليف والدراسة، لكنه كان رسالة للضمير العام، تنبه إلى أن اختلال القيم الصحيحة للحياة ليس أمراً عادياً ولا يجوز التعامل معه على هذا الأساس، ذلك، لأن ذلك سوف يقود فى النهاية إلى اختلال شامل يصبح الاستثناء فيه هو القاعدة.
الجريدة الرسمية