رئيس التحرير
عصام كامل

"تسييس الدين.. وظاهرة التدين المسيس"


لقد أحدثت تلك الظاهرة التى طفت على السطح داخل المجتمع المصرى بعد الثورة والتى يمكن أن نطلق عليها "التدين السياسى" الذى أدى إلى انجراف أعداد كبيرة من أتباع شيوخ السلفية ومن المتعاطفين مع جماعة الإخوان المسلمين وراء تركيز الاهتمام فقط حول القضايا السياسية المتتابعة وإضفاء الصبغة الدينية عليها، حتى انتهى الأمر إلى عزوف كثير من شيوخ الفضائيات عن الحديث عن الأمور الحياتية والطقوس والعبادات التى اقتصرت عليها أنشطتهم الدعوية فى مرحلة ما قبل الثورة، إلى حصر أتباعهم من الطبقة المحافظة ومن البسطاء الذين لم يحظوا بالقدر الكافى من التعليم والتوعية فى حلقة مفرغة من النقاشات السياسية بمفهوم دينى بحت، ومن منظور فكرى وعقائدى محدد.


والحقيقة أن معدل انتشار تلك الظاهرة (على عكس ما يدّعيه البعض من انحصارها) أخذ فى الارتفاع بشكل مطرد بين الطبقات الاجتماعية التى تتسم بالمحافظة والتدين، وبين هؤلاء الباحثين عن الاستقرار (واللى نعرفه أحسن من اللى منعرفوش) بشكل متواز مع ارتفاع معدلات فقدان الثقة (على الجانب الآخر) فى أداء الإخوان المسلمين باعتبارهم الفصيل الحاكم، وفى التيارات الإسلامية بشكل عام بين صفوف القوى المدنية التى لا ترى أى بوادر لدى تلك التيارات للتوافق السياسى أو التغيير فيما يتعلق بالأداء الحكومى وطرح رؤية جادة للتطوير منه، وهو ما سيؤدى، بطبيعة الحال، إلى سعى كل طرف إلى التمترس داخل معسكره للدفاع عنه ضد المعسكر الآخر، وما قد ينتج من ذلك من تصاعد حدة الاستقطاب فى المجتمع ككل.

لقد أدى انتشار تلك الأفكار التى تميل إلى المغالاة والتطرف فى كثير من الأحيان إلى اكتشاف حقيقة أن النظام السابق قد فشل فشلا ذريعا فى القضاء على تلك التنظيمات والجماعات وتجفيف منابع تمويلها من الناحية التنظيمية، وفشل كذلك فى طرح أى مشروع فكرى بديل يتسم بالحداثة والاعتدال على الرغم من امتلاكه للأدوات والإمكانات الهائلة التى كانت من الممكن أن تؤهله لأخذ زمام المبادرة عن طريق الأزهر الشريف بمؤسساته العريقة وعمق تأثيره فى الشخصية المصرية، واستغلال كل ذلك فى الارتقاء بالوعى الجمعى المصرى فيما يتعلق بثقافة المجتمع الدينية، وفهمه وإدراكه لطبيعة الإسلام السمحة التى تبتعد كليا عن كل هذا العبث الذى نشهده على الساحة الآن.

ورغم كل الكوارث التى حدثت منذ صعود الجماعة إلى سدة الحكم، والتى تتصل اتصالا مباشرا بالفقراء والمعدومين، ورغم الارتباك والتخبط المسيطرين على مراكز صنع القرار فى هذا البلد، فإن ذلك (فى تقديرى) لا يؤثر بأى شكل من الأشكال على القرار المسبق لكثير من هؤلاء الفقراء بالتصويت فى الانتخابات البرلمانية المقبلة لصالح تيارات الإسلام السياسى لعدة أسباب أهمها:

1-أن النسبة الكبيرة من الفقراء فى مصر ما زالت تنتظر الانتخابات على أنها الموسم الذى تنتظره من وقت لآخر، باعتبارها المناسبة التى تغدق عليهم فيها جماعة الإخوان المسلمين ومثيلاتها من قوى الإسلام السياسى الأخرى بالأموال والسلع التموينية والاحتياجات اليومية التى يحتاج إليها هؤلاء بشدة، دون النظر إلى حقيقة أن ذلك يعد شراءً لأصواتهم بثمن بخس، أو أن ذلك يندرج تحت تزوير الإرادة أو غيره .

2-أن من يعيشون فى الضواحى والأرياف والمناطق البعيدة عن العاصمة وفى صعيد مصر (وخصوصا المتعلم منهم) لا يحتاج إلى أن يتعرض لكثير من المحاولات للتأثير على إرادته أو رغبته فى التصويت لتيار بعينه، لأن قضيته تتمحور فى الأساس حول كونه يتسم بطابع المحافظة الدينية نتيجة للتربية الريفية التى نشأ عليها، والطبيعة القبلية للبيئة التى قضى معظم حياته فيها، وبالتالى يكون خياره فى أغلب الأحيان محسوما منذ البداية لصالح مرشحى الإخوان المسلمين أو أى من التيارات الإسلامية التى يعتقد أنها الأقرب إلى توجهاته وآرائه التى هى غالبا لا تميل إلى قبول التعددية والانفتاح على الآخر.

3-أما السبب الثالث الذى أرى من وجهة نظرى أنه الأكثر تأثيرا، فهو الاستمرار فى انحسار اهتمام القوى المدنية على العاصمة فقط فى تنظيم فعالياتها الاحتجاجية والتعبوية، أو تلك المتعلقة بأنشطتها التثقيفية وبرامج التوعية، وابتعادها الجيوغرافى والأيديولوجى عن باقى المحافظات والأقاليم نتيجة للقصور التنظيمى وأيضا العجز التمويلى الذى يسيطر عليها والذى لم تنجح (تلك القوى) بعد فى إيجاد حل جذرى له حتى الآن.

لقد أدى تردى مستوى التعليم خصوصا فى القرى والأقاليم، وكذلك غياب الدولة عن رعاية مصالح الفقراء هناك إلى إحداث حالة من الفراغ المجتمعى والمعرفى، وهو ما هيأ الفرصة أمام تيارات الإسلام السياسى إلى تعويض هذا الغياب وإلى ملء الفراغ بطريقة سمحت بخلق حالة عامة من الولاء بين قطاعات واسعة من أبناء الطبقات التى يغلب عليها الجهل والحاجة، وهو ما سوف يحتاج إلى وقت ليس بالقليل لإعادة بناء الوعى السياسى هناك بالطريقة التى تسمح للفرد بالتعبير عن آرائه ورغباته باستقلالية تامة، دون التأثر بأى عوامل خارجية، وهو ما يعد من أسس الديمقراطية التى تسعى بقدر الإمكان إلى وصول من يعبر بحق عن إرادة الشعوب وتوجهاتها إلى مراكز صنع القرار.
الجريدة الرسمية