رئيس التحرير
عصام كامل

أوهام الغرانيق

فيتو


>>أزهريون ومؤرخون يردون على مزاعم«الآيات الشيطانية» وسجود النبى للأصنام

هل سجد الرسول «صلى الله عليه وسلم» للأصنام؟. ما صحة «الآيات الشيطانية» التى تتحدث عن «الغرانيق» وقيل إن النبى تلاها على مشركى مكة؟.. وهل نجح الشيطان أن يوسوس لمن عصمه اللهّ وجعله خير المرسلين؟ أم إن كارهي الرسول لهم مآرب أخري من إثارة الشبهات؟.. الإجابة فى هذا التحقيق:


>> إيمان جبر

ظهرت العديد من الادعاءات والافتراءات التى تشكك فى نبوة محمدﷺ, ونسب المرجفون إليه أقوالا لزعزعة الثقة فى مصداقيته, عندما عجزوا عن تحريف القرآن الكريم, فحاولوا ابتداع القصص الخيالية, التى كان من أبرزها قصة «الغرانيق».

قال الإمام محمد بن الأنباري: إن الغرانيق هى الذكور من الطير، وأحدها غرنوق, وسمي بالغرنيق لبياضه، وقيل هو الكركى، وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله عز وجل، وتشفع لهم لديه, فشبهت بالطيور التي تعلو وترتفع في السماء, وزعموا من خلال قصة «الغرانيق» أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلس فى ناد من أندية قريش, كثير أهله, فأنزل الله عليه الآية الكريمة: «والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى», فقرأها رسول الله حتى إذا بلغ قوله: «أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى», ألقى عليه الشيطان كلمتين: «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى», فتكلم بها ثم مضى, فقرأ السورة بأكملها فسجد فى آخر السورة وسجد القوم جميعا معه, فقال المشركون حينها: قد عرفنا أن الله يحيى ويميت, وهو الذى يخلق ويرزق, ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده, إذا جعلت لها نصيبا فنحن معك, فلما أمسى أتاه جبرائيل فعرض عليه السورة, فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال: ماجئتك بهاتين, فقال رسول الله: «افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل», فأوحى الله إليه قوله تعالى: «وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره».

ولكن فقهاء الإسلام رفضوا هذه القصة, لأنها تخالف مخالفة صريحة لآيات كثيرة في القرآن، تنص على أن الله لم يجعل للشيطان سلطانا على النبي وإخوانه من الرسل وأتباعهم المخلصين، مثل قوله: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان»، وقوله: «إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون».

كما أن هذه القصة تأتى مناقضة للآيات الصريحة التي تفيد حفظ الذكر وصيانته من التحريف والتبديل, والزيادة والنقص, كقوله تعالي: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»، وقوله: «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه».

يقول المؤرخ السياسي الدكتور محمد الجوادى: إن قصة «الغرانيق» موضوعة وملفقة من قبل الزنادقة ضد المسلمين, ولم يكن لها وجود فى عهد النبى أو حتى أيام الدولة الأموية, لكنها وضعت منذ عهد الدولة العباسية عندما دخل غير المسلمين الإسلام وبدأوا فى اختلاق تلك الأكاذيب على نبى الله, وهذه القصة لم ترد اطلاقا فى كتب التفسير, ولكن المستشرقين دائما ما يبحثون عن الأشياء النادرة, ويستخدمونها للطعن فى الرسول صلى الله عليه وسلم , مؤكدا أنهم يحاولون بتلك الواقعة الملفقة أن يقولوا إن محمدا يريد أن يتوافق مع المشركين ويكسبهم, فجاملهم فى هذا بمدح أصنامهم, وأن فكرة التوحيد لم تكن عند الرسول, وأنه كان رجل سياسة وليس رجل دين, وبالطبع فكل هذه القصص ملفقة وكاذبة.

وأشار الدكتور أيمن فؤاد- أستاذ التاريخ الإسلامى بكلية الآداب جامعة القاهرة– إلي أن قصة «الغرانيق» لا أساس لها على الإطلاق, كما أن كلمة «غرنيق» لا وجود لها فى لغة العرب, ولا توجد بقواميس العرب, ويبدو أنها مأخوذة من لهجات غير عربية, مضيفا: إن القصة ملفقة وتتنافى تماما مع عصمة النبى ومع ما حفظ الله به نبيه من وسوسة الشيطان, وكيف يجوز عقلا أن الرسول كان يجلس فى نادٍ للمشركين, ويتدخل الشيطان فى قول يتفوه به رسول الله, وهو صاحب رسالة عالمية تخاطب الإنسان, أيا كان, وجاء النبي لهداية الإنسانية جمعاء, مستشهدا بقول الله تعالى: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين», وأيضا «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق», مؤكدا أن النبى معصوم من ذلك, وفتنة الشيطان تلقى للذين فى قلوبهم مرض من المنافقين والقاسية قلوبهم من الكفار.

وأضاف فؤاد: إن قصة «الغرانيق» ملفقة وباطلة عند أهل التحقيق, والذين استدلوا على بطلانها من القرآن والسنة كقوله تعالى: «ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين».

الدكتور عبد المقصود أبوباشا الأستاذ بجامعة الأزهر يقول: إن قصة «الغرانيق» فى التاريخ الإسلامى مختلقة من أساسها, وتبناها بعض الكارهين للإسلام والراغبين فى تشويه صورته, وترجع أصولها إلى أن الرسول «صلي الله عليه وسلم» أمر أصحابه بالهجرة الى الحبشة, وفى تلك الفترة نزلت سورة النجم على الرسول فى مكة, وجاء بها ما يثبت الوحدانية لله والألوهية له دون سواه, وفى تلك الفترة كان المشركون فى مكة يلحون فى الهجوم على الرسول, ويرفضون الاستماع الي القرآن الكريم, وذات مرة جاء رسول الله الى أحد نوادي المشركين, وقرأ سورة النجم, فلم يتمكنوا إلا الإنصات, لأن السورة تتناول قضايا عديدة تهم المجتمع المكى والعرب عامة, والإنسانية كلها, وفى نهاية الآية لم يملك القرشيون من أنفسهم إلا أن يسجدوا إمعانا منهم فى الخضوع لله.

وأضاف أبوباشا: ولما كانت الشائعات تسرى فى أى مجتمع سريان النار فى الهشيم, فقد أشاع بعضهم أن محمدا حين قرأ «أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى», ادعوا أنه قال: «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى», وادعوا أن محمدا سجد إكراما وإعظاما لتلك الأصنام, وسرت الشائعة ووصلت للحبشة ونتيجة الإلحاح فى تثبيت الشائعة تحولت الخرافة إلى حقيقة فى عقول بعض المهاجرين للحبشة, بينما هذه القصة مختلقة وكاذبة ولا أساس لها من الصحة.

واكد الدكتور رشاد خليل- عميد كلية الشريعة السابق بجامعة الأزهر- أن قصة «الغرانيق» لا أساس لها من الصحة, وندرك منها رداءة الشائعات التى تحول الخيال الى حقيقة, والوهم الى واقع فى عقول بعض الناس, محذرا المسلمين من الحديث فى مثل هذا الهراء.

ويضيف خليل: إن الآية الكريمة «إن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره» توضح أن الشيطان قادر أن يتصور بصورة إنسان, ويدلى بافتراءاته فى صورة حقائق, وهناك حادثتان تمثل فيهما الشيطان فى صورة إنسان, الأولى حين تمثل فى صورة كبير من كبراء العرب ,واقترح عليهم أن يخرج من كل قبيلة شاب قوى بسيوف مسنونة فيضربون محمدا ضربة رجل واحد؛ فيفرقون دمه بين القبائل, ثم نعلم بعد ذلك أن هذا كان إبليس وقد تجسد فى صورة رجل ناصح, والحادثة الثانية عندما تجسد الشيطان وأراد فتنة الرسول عن الصلاة فى المسجد, فأخذه الرسول وقبض عليه, وقال لأصحابه: لولا أخى سليمان لكنت قيدته فى المسجد حتى ترونه فى الصباح, لذا نزلت السورة الكريمة بعد هاتين الحادثتين, وليس لها علاقة بالقصة المزعومة عن «الغرانيق».
الجريدة الرسمية