رئيس التحرير
عصام كامل

السلطة والدولة.. وما بينهما


"نحن أمام فصيل لا يستطيع أن يفرق بين السلطة والدولة".. كان هذا هو تعليق الأستاذ هيكل فى إحدى مقابلاته التليفزيونية الأخيرة عن جماعة الإخوان المسلمين، ونظرتها لكيفية تسيير شئون الدولة التى نجحوا فى الوصول (أخيرا) لسدة الحكم فيها.


والحقيقة أن ذلك الخلط يعد هو الخطر الذى يجب أن تنتبه إليه الجماعة الوطنية الآن فى تعاملها مع النظام الحاكم، حيث إن هذا الخلط لا ينبع فى الأصل من قصور فى التفكير أو الرؤية السياسية والإستراتيجية للجماعة، ولكنه يعد أحد المبادئ الفكرية التى نشأ عليها هؤلاء والتى لا تفرق بين الدولة ككيان مستقل يعيش المصريون جميعهم تحت رايته، وبين الأداة الدستورية التى يمنحها الشعب للحاكم حتى تعينه على أداء مهمته فى إدارة شئون ذلك الكيان.

إذن.. نحن أمام فارق كبير من الناحيتين النظرية والواقعية، فالدولة تتمثل فى المؤسسات والهيئات من الناحية الإدراية والتنظيمية، والهوية والتفاعل الفكرى والثقافى بين فئات وتيارات المجتمع المختلفة وكذلك الانصهار الحضارى والعرقى والدينى لتلك الفئات والتيارات من الناحية الإنسانية.

أى أن الدولة فى مفهومها البسيط هى تلك الأعمدة الخرسانية التى تقوم أى بناية عليها، ولا يمتلك الإنسان أن يفعل بتلك الأعمدة بعد الانتهاء من تشييد المبنى إلا أن يقوم ببعض أعمال الصيانة والترميم لها، حيث إن العبث بها من الممكن أن يعرض المبنى بأكمله إلى خطر الانهيار.

 أما السلطة فتتمثل فى ورق الحائط الذى يتم لصقه لتبطين حوائط المبنى من الداخل وكذلك قطع الأثاث التى يحويها المبنى والتى يمكن للمرء أن يحركها أو أن يغير موضعها كيفما شاء دون تعرضه لأى مشكلة.

فى الواقع، إن بعض التيارات الإسلامية تطالب الرئيس بأن يضع فى يده السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، ويستندون فى ذلك إلى أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، ومن بعده الخلفاء الراشدون قد فعلوا نفس الأمر، وهم فى ذلك لا ينظرون إلى التطورات الواسعة التى حدثت فى البناء الداخلى للدول ونظم الحكم، وهو ما أدى إلى ظهور تعريف الدولة الحديثة بأنها الدولة التى تقوم على التوازن بين تلك السلطات الثلاث فى إطار من الاستقلالية التامة، ومن خلال مرجعية ديمقراطية تعتمد فى جوهرها على الرقابة الشعبية متمثلة فى الأحزاب والكيانات السياسية ومنظمات المجتمع المدنى الحر.

بل إن هناك بعض الفتاوى التى ظهرت مؤخراً من داخل تيار الإسلام السياسى، والتى لا تؤمن أصلاً بضرورة تقسيم سلطات الدولة إلى ثلاثة أقسام، وأن ولى الأمر هو من يجب أن يمتلك كل شىء، وأن على الشعب أن يسمع ويطيع طالما أن ذلك الحاكم يؤمن بالله ورسوله ولم يأت بأفعال تعد (كما يعتقدون)، من المعاصى والآثام.

 مازال يتبع هؤلاء رأى جمهور الفقهاء فى كل شىء، حتى وإن كان فى هذا (أحياناً)،هلاك للأمة، فتجدهم مازالوا يعتقدون بأن الرأى الفقهى الذى يوجب على الشعب أن يرضخ لمن قفز على الحكم واستولى عليه بقوة السلاح درءاً للفتن، لأن جمهور العلماء قد اجتمعوا عليه، على الرغم من وجود آراء أخرى (وخصوصاً الحنفية منها)، تختلف جذرياً مع ذلك الطرح، كما تراهم يؤمنون أيضاً بأن وضع اليد على الأرض (على سبيل المثال) دون طلب الإذن من ولى الأمر هو الأصلح لأن جمهور العلماء قد اتفقوا على ذلك منذ ما يقرب من ألف عام، دون مراعاة للتغيرات الفكرية وتطورات الزمن وتعقيداته الإجرائية ونزعة الإنسان إلى احترام دولة القانون والبعد عن البداوة والعشوائية.

مازلت أرى أن الأمل يكمن فى القوى المدنية التى يجب عليها أن تعيد ترتيب أوراقها من جديد، وأن تنحاز إلى الوسطية فى الاعتقاد والتفكير، وهو ما يتمثل فى الأزهر الشريف بعلمائه وجامعته وهيئاته البحثية، لأنها على مايبدو أنها تواجه محاولات للعبث بالهوية الدينية أعمق فى قوتها من العبث بهوية الشعب الثقافية والحضارية، وأكثر حدة من محاولات السيطرة السياسية على مقدراته وإرادته.


الجريدة الرسمية