رئيس التحرير
عصام كامل

توفيق الحكيم: عام واحد من حكم الإخوان جعل من مصر «أشلاء» !

فيتو

ساعات الحظر المفروضة على الشارع المصري من السابعة مساءً، جعلت الشوارع وكأنها مدن أشباح، فبعضها لا يوجد بها صريخ ابن يومين، فلم أعتد على شوارع القاهرة هذا الصمت المطبق، وهي التي يزعج ضجيجها ليلًا ونهارًا الكواكب الأخرى..


وفي محاولات لكسر هذا الملل من ساعات الحظر الطويلة، التي لا توجد بها تسلية غير متابعة التليفزيون ونشرات الأخبار التي تحاصرنا آناء الليل وأطراف النهار بأخبار قيادات الإخوان، فكلها أنباء عن إلقاء القبض على فلان أو علان، وهم يتساقطون كالفئران في المصيدة، ومنهم الذي عمل نيولوك ودوجلاس، ولا تفارقهم الابتسامة المصطنعة.

دخلت مكتبتي المتواضعة لعلها تنقذني من هذا الملل، وتكسر حدته، ودون اتفاق أو ترتيب لما سأقرأه امتدت يدي إلى كتاب «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، ورغم قراءتي له مرات ومرات فلم أتمالك نفسي مع سطوره الأولى بالتمادي في قراءته، وكأني أقرأه للمرة الأولى.

ومع أن الكتاب سيرة ذاتية للحكيم نفسه منذ طفولته، بعد أن أرسله والده للقاهرة ليعيش مع أعمامه ويلتحق بالمدرسة الثانوية، وإعجابه بجارته، وتحول هذا الإعجاب إلى حب، وتنافس العائلة كلها على حب هذه الجارة وصراعهم على الفوز بقلب الجارة الحسناء.

إلا أن الأجزاء التي يتعلق فيها قلب هذا الشاب ببطل ينقذ مصر مما ألم بها، جعلني أتمسك أكثر بأن أكمل الرواية إلى نهايتها دون ملل أو كلل، ووجدت أن سمات هذا البطل الذي ذكرها الكاتب تنطبق على كثير ممن مروا بتاريخ مصر، كسعد زغلول وجمال عبد الناصر وغيرهما، فاشتقت أكثر للحديث مع هذا الرجل، وقلت في نفسي: لم لا أحضر روح توفيق الحكيم لنتحدث سويًا، ونكسر معا ساعات حظر التجوال في حديث يفيد.

فأسرعت إلى غرفتي التي تفيض منها رائحة البخور المغربي، فتمتمت تعاويذي وقرأت الطلاسم التي علمني إياها الساحر الساخر الأسواني "حسن شاهين"، الذي علمني سحر تحضير الأرواح، وبعد انتهائي من قراءة التعاويذ والطلاسم جاءني صوت الحكيم هادئًا رزينًا، ودار بيننا هذا الحوار..

قلت: أهلًا بك أستاذنا توفيق الحكيم في عالمنا.

قال: لا أعلم لم أحضرت روحي في هذا الوقت، فأمامك ساعات النهار طويلة، هل حبكت أن تحضر روحي في ساعات الحظر، لقد وجدت صعوبة شديدة كي أخترق اللجان الأمنية واللجان الأخرى التي تطلقون عليها اللجان الشعبية كي أصل إليك.

قلت: معلش أيها الحكيم أزمة وهتعدي، المهم طمني عليك، حد من بتوع اللجان الشعبية ثبتك ولا حاجة؟

قال: لا تقلق، أنا لا أحمل معي نقودًا، وكل ما أحمله هو فكر في عقلي، وهم لن يستطيعوا سلبه إلا إذا انتزعوا رأسي من فوق كتفي.

قلت: طب حد اتعرض لك من بتوع الإخوان؟

ضاحكًا قال: الشياطين تهرب من النور، ونور الفكر لا يتحمل الإخوان وهجه، ولا يستطيعون مجابهته، فهم يهربون منه، لذا أنا لا أخشى منهم.

قلت: طب حمدًا لله على سلامتك، ومتزعلش إن جبت حضرتك في الوقت ده، وأهو نسلي بعض في ساعات الحظر دي.

قال: فعلًا ساعات الحظر طويلة، وإن لم تستغلها فيما ينفع الذهن فهي قادرة على بعث الملل والكلل في النفس.

قلت: إيه هو حضراتكم برضه عندكوا ساعات حظر؟

قال: ما تعانون منه يؤلمنا في قبورنا ويقض مضاجعنا، واللي هايسري عليكم يسري علينا، مشيرًا إليه بكتاب «عودة الروح»، قلت: بس إيه الكلام الحلو اللي حضرتك قلته في الكتاب ده.. وإن مصر تنتظر البطل الهمام اللي هيحيي للأمة بعد رقادها.. أكيد حضرتك كنت تقصد عبد الناصر.. صح؟!

قال: عبد الناصر بس.. ألا ترى بطلًا آخر في زمانكم خليفة له ؟

قلت: تقصد السيسي طبعًا!

قال: نعم، فهما وجهان لبطل واحد يحيي الأمة، بعد ركود وممات، وقد ماتت مصر عامًا في عهد الإخوان، ولكن هذا البطل بانحيازه لشعبه أحياها بعد ممات.

قلت: إن مصر تمر بأزمة حقيقية.. إرهاب داخلي وخارجي.. وضغط من دول تفرض شروطها وكأن مصر مقاطعة من مقاطعاتهم أو ولاية من ولاياتهم.. فهل ستتحمل مصر كل هذا؟

ضاحكًا قال: لقد مرت مصر بأحلك من هذا وعبرته بإرادتها الحرة.. أنت تعلم أنني لم أنضم في حياتي لأي حزب قبل يوليو خشية التورط في انحياز لأفكار هذا الحزب وتوجهاته.. فأردت أن أكون مستقلًا في فكري بعيدًا عن أي إملاءات من أحد.. لكن عندما قامت ثورة يوليو 52 انحزت لها ودافعت عنها.. ووجدت في عبدالناصر مخلصًا وملهمًا وقائدًا للأمة.. وكانت الظروف في هذا الوقت أحلك من هذا.. فالإخوان أيضا كانوا يريدون نصيبهم من الكعكة.. وضغط خارجي تحول إلى عدوان ثلاثي على مصر.. ومرت مصر وعبرت كل هذه الأزمات.. فلا تخشى على مصر.. فهي قادرة على الصمود.

قلت: لم كل هذه الثقة؟

قال: عد إلى التاريخ وستعلم سبب هزة الثقة، مصر ذات التاريخ الممتد مر عليها ما لا تتوقعه أو تتخيله وصمدت وستصمد.. وكفى عاما قضته مصر في ظلام الإخوان.

قلت: تقصد يعني الكهربا اللي كانت بتقطع.. يا راجل دا إحنا شفنا أيام.

قاطعني قائلًا: أنا أقصد ظلام الفكر، لقد تحولت مصر في عام واحد إلى ما يشبه أشلاء أوزوريس في أسطورة إيزيس، فأشلاء أوزوريس الحية في الأسطورة هي مصر متقطعة الأوصال التي‮ ‬تنتظر من‮ ‬يوحدها ويجمع أبناءها على‮ ‬هدف واحد‮..، وهو ما حدث في 03 يونيو.. وتحققت أسطورة إيزيس وتوحد الشعب بعد أن تفتت أوصاله بين الأهل والعشيرة.. واقتطعت أجزاؤه..وكادت خريطة مصر نفسها تتغير.. والكل طمع في مصر وتجرأ عليها الصغار.. وكادوا يحرمونها حتى من نيلها..فتجمعت الأشلاء في مشهد مهيب وتقف مصر عفية من جديد..في مشهد سيحكي عنه التاريخ.

قلت: عفوا أستاذي..فأنا أرى منك تناقضًا عجيبًا.. (وأخرجت من مكتبتي كتاب «عودة الوعي»)..

وقلت: أنت في هذا الكتاب تقول إن الشعب المصري في حكم عبد الناصر كان مغيب الوعي، وهي مرحلة عاش فيها الشعب المصري فاقد الوعي، مرحلة لم تسمح بظهور رأي في العلن مخالف لرأي الزعيم الاوحد، وأعلنت أنك أخطأت بمسيرتك خلف الثورة دون وعي.. وأخذت أتلو بعض السطور من كتابه، والتي جاء فيها: «العجيب أن شخصا مثلي محسوب على البلد هو من أهل الفكر قد أدركته الثورة وهو في كهولته يمكن أن ينساق أيضا خلف الحماس العاطفي، ولا يخطر لي أن أفكر في حقيقة هذه الصورة التي كانت تصنع لنا، كانت الثقة فيما يبدو قد شلت التفكير، سحرونا ببريق آمال كنا نتطلع إليها منذ زمن بعيد، وأسكرونا بخمر مكاسب وأمجاد، فسكرنا حتى غاب عنا الوعي... أهو فقدان الوعي... أ‎هي حالة غريبة من التخدير؟

مبتسمًا قال: أنت كغيرك تبتر السطور من سياقها لتأخذها سيفًا ودليلًا علىّ، لقد انتقدت في زمن عبد الناصر نفسه كل أشكال الديكتاتوريات والجوانب غير الديمقراطية، وأكدت أن الديمقراطية لا تتجزأ.. (وأشار إلى كتاب «السلطان الحائر») وقال: هل قرأت هذا الكتاب أم هو موجود في مكتبتك للزينة.. فأنا طوال تاريخي تبنيت عديدًا من القضايا القومية والاجتماعية وحرصت على ‬تأكيدها في كتاباتي،‮ ‬ومن أهمها بناء الشخصية القومية،‮ ‬وتنمية الشعور الوطني،‮ ‬ونشر العدل الاجتماعي،‮ ‬وترسيخ الديمقراطية،‮ ‬وتأكيد مبدأ الحرية والمساواة‮.

قلت: إنها نفس مطالب ثورتنا في يناير وثورة التصحيح في 30يونيو..

قال: إنها مطالب كل الثورات، فلا تندلع الثورات إلا لهذه الأسباب.. ومصر قادرة على تحقيق مبادئ ثوراتها..واقرا التاريخ لتتاكد.
قلت: أي مصر تقصد؟

قال: مصر الفرعونية اليونانية الرومانية العربية الإسلامية.. إنها صهرت كل هذا في بوتقتها وصنعت منه نسيجًا مصريًا خالصًا.
قلت: يقال إنك كنت عدوا للمرأة.. إيه الكلام دا؟

قال: ولكن كل كتاباتي كانت تقطر احترامًا وإجلالًا لها، انها شائعات اطلقوها، ثم إنني تزوجت وأنجبت، يعني كانت شائعات، لكن عندما أرى الوجوه النسائية التي صدرها الإخوان لتتحدث باسم المرأة زي «أم أيمن» و«باكينام» أقول كان لدي حق عندما أعلنت في فترة من فترات حياتي إني عدو للمرأة!

قلت: وماذا عن حروبك مع الأزهر بعد مقالاتك التي نشرتها في الأهرام « حديث مع الله»؟

قال: إنها نفس القوى الظلامية التي تحارب الفكر في كل مكان، إن الأزهر يحمل لواء التسامح والوسطية، ولم يكن ليدخل هذه المعركة إلا بعد تأجيج العناصر الظلامية للفتنة واقتناص السطور وبترها من سياقها، ليأخذوها علىّ كحجة، إن علاقتي بالأزهر طيبة دائما، وأراه حائط الصد الأخير لأي قوى ظلامية، ولا تنس أن مسرحية «الأيدى الناعمة» التي كتبتها قد كتب المقدمة لها الشيخ مصطفى عبدالرازق شيخ الأزهر آنذاك.

قلت: وبعد ما مرت به مصر وما ذاقته في عام من حكم الإخوان.. هل ترى أن هناك أملًا لهم أن يصعدوا للحكم مرة أخرى في أي انتخابات قادمة؟

قال: بعد تجربتي كـ«نائب عام في الارياف»، وما شاهدته من بسطاء يرجون من الحياة الفتات لكي تستمر، فهم فرحوا بزجاجة زيت أوكيلو سكر، واي بضاعة تموينية قدمها لهم الإخوان..

فالإخوان كانوا الأقدر على التحرك بين هؤلاء البسطاء..لذلك نجحوا بأصواتهم..وعلى الحكومة أن تحتوي هؤلاء الناس وتمد لهم يد العون ويعرفوا أن الصوت الانتخابي قد يغير مصير أمة.. وبعد ما ذاقوه خلال عام فأنا واثق أنهم لن يكرروا الخطأ مرتين...وإذا لم تكرر الحكومة نفس الخطأ وتترك الفقراء والمحرومين للإخوان يحتالون عليهم ببضاعتهم المغموسة بالذل، فقل على الدنيا السلام.

قلت: وبتشجع كورة يا أستاذنا.. وإيه رأيك في أبو تريكة؟

ضاحكا قال: لا تقلب علىّ المواجع..فقد انتهى عصر «القلم» وبدأ عصر «القدم».. لقد أخذ هذا اللاعب في سنة واحدة ما لم يأخذه كل أدباء مصر من أيام اخناتون إلى اليوم..

(مشيرًا إلى الساعة)..وقال: ياه الساعة عدت ستة..زمان الحظر خلص..وكدا أقدر أتحرك براحتي..لا لجنة أمنية ولا لجنة شعبية.. ياللا اصرف روحي بقى زي ما جبتها.. ونصيحتي لك: اقرأ تاريخ مصر كويس وثق أنها هتعدي من كل أزماتها..

مبتسمًا قلت: والله الواحد معاك نسي الوقت وعدى زي الهوا ويعز علىّ أسيبك لكن زي ما تحب.. وقمت بتلاوة تعاويذي وتمتمة الطلاسم.. فعادت روحه سالمة من حيث أتت.. ووجدت يدي تذهب إلى كتاب «براكسا أو مشكلة الحكم»!
الجريدة الرسمية