رئيس التحرير
عصام كامل

د. محمد عثمان الخشت: موسوعة الأديان العالمية ليست صراعًا ضد التراث.. تحسين النسل الجيني تلاعب بخلق الله.. والفروق بين الرجل والمرأة في التشريع الإسلامي ليست كلها ظلمًا أو تمييزًا ( حوار )

د. محمد عثمان الخشت
د. محمد عثمان الخشت - فيتو
18 حجم الخط

>> أدعو للتفاهم بين الأديان على قاعدة احترام الاختلاف لا إلغائه أو إذابته فى كيان واحد
>> ثورة تحرير الجينوم تفتح آفاقًا واسعة لعلاج السرطان وأمراض المناعة والاضطرابات الوراثية
>> غالبية الموسوعات العربية التى تتناول الأديان منحازة
>> الإلحاد العلمي ظاهرة حديثة تختلف عن التقليدي وقمنا بتفكيك بنيته الخطابية وزعزعة مزاعمه المعرفية
>> الموسوعة تدعو إلى فهم وتفاهم الأديان لبعضها بعضا وتفكيك أسس خطابات الكراهية
>> هدفت إلى كشف المشترك بين الأديان والفروق الجوهرية بينها دون شيطنة الآخر

>> إصدار موسوعة جديدة عن الأديان لم يكن مجرد رد فعل على ظرف طارئ
>> المعركة  الحقيقية ليست بين القديم والجديد بل بين الفكر الحى والميت
>> مشروعى ليس صراعًا ضد التراث ولا انحيازًا أعمى للحداثة بل تفكيك نقدى لما يعوق التقدم فى كليهما
>> العلوم الجديدة لا تستجيب للفتوى التراثية وتحتاج للاجتهاد المؤسسى الجماعي
>> الشريعة ليست عاجزة بل بحاجة إلى تجديد أدوات الفقه والفتوى
>> الفتوى لم تعد قرارًا فرديًا بل عملًا تشاركيًا يتطلب معرفة وعقلًا نقديًا وشجاعة فكرية
>> ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة بوابة للعنف والإقصاء
>> نحتاج لتجديد فى المنهج الفقهى نفسه لا فى الشريعة
>> التدخل فى خلق الله يُصبح مرفوضًا عندما ينطوى على ادعاء السيطرة الكلية على الحياة أو نفى الحكمة الإلهية
>> نحتاج لبناء فقه توازنى يفرق بين العبث بالخلقة وبين الاستفادة من العلم 
>> هناك فجوة مؤسفة بين بعض رجال الدين والعلماء فى ميادين الجينوم والذكاء الاصطناعى والروبوتات
>> المطلوب اليوم ليس فقط تحديث فى “موضوعات” الفقه بل فى تكوين الفقيه نفسه
>> نحتاج مشروع تجديدى شامل يُعيد صياغة علاقتنا بالشريعة 
>> يجب تقديم الشريعة ليس كـ“نظام مغلق”، بل كـ”مرجعية حية” تنطلق من الواقع المتغير إلى الوحى ثم تعود إلى الواقع
>> المتطرف ليس فقط من يحمل سلاحًا أو يكفّر غيره بل صاحب بنية عقلية مغلقة
>> امتلاك الحقيقة المطلقة هو أخطر ما يمكن أن يدّعيه الإنسان لأنه ينتقل من “احتكار الاعتقاد” إلى “احتكار السلطة”
>> حين يظن الفرد أنه يحتكر الحقيقة فإنه يمنح نفسه حق محاكمة الآخرين وإدانتهم وربما تصفيتهم
>> التطرف السياسى ينتج فاشيات حديثة والتطرف القومى يبرر الإبادة والتطرف العلموى يسخر من الروح
>> إصلاح التعليم يبدأ بدمج التفكير النقدى فى المناهج وتعليم الطلاب الفرق بين النص والتفسير
>> نحتاج للانتقال من “التلقين” إلى “التكوين” ومن “التكديس المعرفي” إلى “التحليل النقدي”.
>> تعديل المناهج مهم لكنه غير كافٍ ما لم يصاحبه تدريب الأساتذة على استخدام مناهج جديدة

 

خاض معركة التنوير وإعادة بناء الفكر الدينى والفلسفى على أسس عقلانية معاصرة، ليصبح أحد أبرز المفكرين العرب الذين قرروا خوض هذه المعركة بشجاعة واتزان.

 

هو مفكر موسوعي، ترك بصمة واضحة فى مشهد الفكر العربى من خلال مؤلفاته ومحاضراته التى جمعت بين الأصالة والتجديد.


إنه الدكتور محمد عثمان الخشت أستاذ فلسفة الأديان، والمذاهب الحديثة والمعاصرة، وعضو المجلس العلمى الأعلى لجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية والرئيس السابق لجامعة القاهرة الذى يفتح قلبه فى هذا الحوار، متحدثا عن موسوعيته عن الأديان، ورؤيته لعديد من القضايا الشرعية والفكرية والمجتمعية.

 

والدكتور محمد عثمان الخشت صاحب إنتاج فلسفي وأكاديمي غزير، حيث بلغت مؤلفاته: 98 كتابا وتحقيقا وبحثًا علميًا محكمًا، منها: 43 كتابا منشورا، و24 كتابًا محققًا من التراث الإسلامي، وله  31 من الأبحاث العلمية المحكمة المنشورة. وصدر أول كتاب منشور له عام 1982 ومن أهم مؤلفاته: نحو تأسيس عصر ديني جديد، تطور الأديان، مدخل إلى فلسفة الدين، للوحي معان أخرى، الإسلام والوضعية في عصر الأيديولوجية، المعقول واللامعقول في الأديان، أخلاق التقدم، أسس بناء الدولة الحديثة، صراع الروح والمادة في عصر العقل، العقل وما بعد الطبيعة، مفاتيح علوم الحديث، الدليل الفقهي، ومن أهم تحقيقاته للتراث: تمييز الطيب من الخبيث فيما اشتهر على ألسنة الناس من الحديث، والفرق بين الفرق، وكتاب المنهيات. وترجمت بعض أعماله إلى لغات أخرى مثل (الألمانية والإنجليزية والفرنسية والأندونيسية وبعض اللغات الأفريقية).


"فيتو" حاورته حول العديد من القضايا المهمة، وحول موسوعته الجديدة للأديان، فإلى نص الحوار:

*ما الدافع وراء إصدار موسوعة جديدة عن الأديان؟ وهل جاءت كرد على واقع معين؟

الدافع لم يكن مجرد رد فعل على ظرف طارئ، بل نتيجة وعى تراكمى تشكل عبر عقود من العمل فى فلسفة الدين ومقارنة الأديان، لاحظت خللًا معرفيًا مزدوجًا، من جهة، هناك فقر واضح فى الموسوعات العربية التى تتناول الأديان بمنهج علمى شامل، وغالبًا ما تكون منحازة، أو أنها لا تشمل كل أديان العالم، أو محصورة فى دين واحد أو طائفة بعينها، ومن جهة أخرى، هناك سيطرة لخطابات استشراقية غربية على الدراسات المقارنة، كثير منها يتسم بانحياز معرفى أو خلفية عقدية غير معلنة.

لكن السياق العالمى اليوم مع صعود تيارات التطرف الدينى وغير الدينى من جهة، والمادية الإلحادية من جهة أخرى، عجّل بالحاجة إلى مشروع موسوعى يقدم قراءة عقلانية، تحليلية، عادلة للأديان، تُفكك الخطابات المغلقة من كافة الأديان والمذاهب دون التورط فى التبشير أو الإقصاء، الموسوعة جاءت لتكون منصة معرفية لتحرير الوعى الديني، لا أداة للصراع الطائفى أو الديني.

*ما الإضافة التى تقدمها موسوعتك؟

ما أضفته فى هذه الموسوعة هو منهج عقلانى مركّب يجمع بين الوصف الموضوعي، والنقد الفلسفي، والتحليل التاريخي، دون أن يفقد الاحترام للظاهرة الدينية بوصفها مكونًا مقدسا ومركزيًا فى الوجود الإنساني، كما إنها موسوعة شاملة: لا تقتصر على الأديان الكبرى، بل تتناول الأديان الصغرى والمذاهب والتيارات والحركات المعاصرة، والفلسفات ذات الصلة، والشخصيات المؤثرة، مع الاستعانة فى فهم الظاهرة الدينية بالعلوم الاجتماعية والإنسانية والطبيعية.

*هل الموسوعة تدعو لحوار الأديان، أم لنقد صريح للمفاهيم المغلوطة داخلها؟

الموسوعة لا تروّج لحوار الأديان بالمعنى السياسى أو الدعوي، لكنها تدعو إلى فهم وتفاهم الأديان لبعضها بعضا وعبر تفكيك الأسس التى تقوم عليها خطابات الكراهية، فى الوقت ذاته، هى تمارس تصحيحا صريحًا ومباشرًا للمفاهيم المغلوطة، وتكشف عن جوهر الإيمان وثوابته.

بمعنى آخر، نحن لا نتجنب نقد الأفكار تحت غطاء الحوار، لكننا نمارس النقد من داخل إطار معرفى وإنساني، يحترم تنوع التجارب الدينية، ويهدف إلى كشف المشترك بين الأديان وأيضًا كشف الفروق الجوهرية بينها دون شيطنة الآخر.

*كيف تتعامل الموسوعة مع الموجات الفكرية الحديثة مثل “الروحانية الجديدة” و”الإلحاد العلمي”؟

تعاملت الموسوعة مع هذه الظواهر تعاملا نقديا على أسس علمية وعقلانية، الروحانيات الجديدة – مثل الحركات التأملية أو الطاقة الكونية – تعبّر عن تحولات فى الذهنية المعاصرة نحو النزعة الذاتية والتجربة الفردية، وهو ما وجهنا إليه مطرقات النقد العقلانى الصارم، أما “الإلحاد العلمي”، فهو ظاهرة حديثة تختلف عن الإلحاد التقليدي، وقمنا بتفكيك بنيته الخطابية وزعزعة مزاعمه المعرفية.

الموسوعة لم تكتفِ بوصف هذه الظواهر، بل حللت خلفياتها الاجتماعية والفلسفية، وبيّنت مواضع الالتباس فيها، وأبرزت أنها تستند إلى مقدمات غير يقينية وغير كافية.

*هل تؤمن بأن هناك ما يسمى “دين عالمى موحد”؟ وما موقفك من هذا الأمر؟

أنا لا أؤمن بإمكانية وجود دين عالمى موحّد بالمفهوم العقائدى أو الطقسي، لأن الاختلاف سنة كونية إلهية، يؤكد القرآن ذلك فى مواضع كثيرة، وكل تجربة دينية تحمل بصمتها الخاصة، (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)، لكن ما يمكن الحديث عنه هو جانب روحى مشترك، نسميه “المشترك الإنساني” فى التجربة الدينية، مع وجود اختلافات نوعية تخص كل دين.

وما أدعو إليه هو تفاهم بين الأديان، على قاعدة احترام الاختلاف، لا إلغائه أو إذابته فى كيان واحد.

*هل تعتبر أن إزالة الفروق بين الأديان تمثل خطرًا على خصوصية كل دين، خاصة الإسلام؟

لا أعتقد أن هناك جهات رسمية أو مشاريع واضحة فى العالم العربى تسعى لمحو الفروق بين الأديان أو نسج “دين موحّد” بالمعنى العقائدي.

وبشكل عام نحن مع الحوار، ومع البحث عن المشترك، مع الاعتراف بأن الاختلاف جزء من احترام الذات والآخر معًا، والفروق هنا ليست عائقًا، بل منطلقًا لحوار صادق مبنى على وضوح المواقف وليس على خلطها.

*كيف ترى ثورة تحرير الجينوم وتأثيرها على مستقبل الطب والإنسانية؟

ثورة تحرير الجينوم تمثل تحولًا جذريًا فى تاريخ العلم، لأنها تمكّن الإنسان لأول مرة من التدخل المباشر فى البنية الجينية التى تتحكم فى الحياة والمرض والصفات الوراثية، نحن لا نتحدث فقط عن أدوات تشخيص دقيقة، بل عن إمكانيات فعلية لتعديل المادة الوراثية، ما يفتح آفاقًا واسعة لعلاج الأمراض المستعصية، مثل السرطان وأمراض المناعة والاضطرابات الوراثية.

لكن فى الوقت نفسه، هذه الثورة تضعنا أمام أسئلة أخلاقية وفلسفية حادة: إلى أى مدى يحق لنا التدخل؟ من يضع المعايير؟ وما حدود ما يمكن تغييره دون المساس بكرامة الإنسان؟ ولذلك، يجب أن نرافق هذا التقدم العلمى بثورة فى التفكير الأخلاقى والفقهى والمعرفي، لأن الأثر لن يكون طبيًا فقط، بل اجتماعيًا وإنسانيًا وعقائديًا أيضًا.

*ما الفرق بين “العلاج الجيني” و”تحسين النسل الجيني” من منظور أخلاقى وشرعي؟

الفرق الجوهرى يكمن فى النية والوظيفة، فالعلاج الجينى يهدف إلى تصحيح خلل وراثى يؤدى إلى مرض أو إعاقة، أى أنه يتعامل مع حالة مرضية واقعية، وهدفه إنقاذ الإنسان أو تحسين جودة حياته، أما تحسين النسل الجينى فهو يذهب إلى أبعد، حيث يسعى إلى إعادة تصميم الإنسان نفسه وفق معايير جمالية أو ذهنية أو جسدية، بمعنى أنه لا يعالج مرضًا، بل يصنع نموذجًا بيولوجيًا انتقائيًا.

ومن منظور أخلاقى وشرعي، الأول يُنظر إليه باعتباره امتدادًا لمبدأ رفع الضرر وجلب المنفعة فى علم أصول الفقه، أما الثانى فيثير تساؤلات حول التمييز، والطبقية البيولوجية، والتلاعب بخلق الله، هناك خشية حقيقية من أن يتحول تحسين النسل إلى مدخل لإعادة إنتاج شكل جديد من العنصرية، مبنية هذه المرة على الكود الجينى لا على اللون أو الدين أو اللغة.

*هل ترى أن الشريعة الإسلامية تمتلك القدرة على استيعاب هذه التطورات العلمية؟ أم أنها بحاجة إلى تجديد فقهها؟

الشريعة فى مقاصدها الكبرى تمتلك مرونة مدهشة، وهى قائمة أصلًا على فقه المصالح والمآلات، لكن المشكلة ليست فى النصوص، بل فى آليات الاستنباط والفتوى، نحن بحاجة إلى تجديد فى المنهج الفقهى نفسه، لا فى الشريعة، أى أن ننتقل من فقه الحوادث اليومية إلى فقه المقاصد والمستقبل والاحتمالات.

الخطأ الأكبر هو حصر الفقه فى تقليد أقوال القدامى، بدلًا من استخراج المعنى المقاصدى الذى يمكنه التعامل مع مستجدات غير مسبوقة، مثل علم الجينوم، والذكاء الاصطناعي، والتقنيات البيولوجية، كلها قضايا لا تستجيب للفتوى التراثية، بل تحتاج إلى اجتهاد مؤسسى جماعى يوظف أدوات العلم ويأخذ بالمنطق المقاصدى والمآلي.

*كيف نضع حدودًا واضحة بين التدخل فى خلق الله والاستفادة من العقل والعلم؟

الحد الفاصل هو مقصد الإنسان والهدف مما يفعله، و“التدخل فى خلق الله” يُصبح مرفوضًا عندما ينطوى على ادعاء السيطرة الكلية على الحياة أو نفى الحكمة الإلهية أو تدمير نظام الخلق من أجل مصالح نفعية أو عبثية، أما حين يكون التدخل جزءًا من التمكين الإلهى للعقل البشرى فى عمارة الأرض، وتحقيق الخير، ودفع الألم، فهو لا يتعارض مع الإيمان، بل يُجسده عمليًا.

القرآن نفسه يشير إلى أن الله سخر لنا ما فى الأرض، وأمرنا بالنظر والتدبر والبحث، و”خلق الله” ليس شيئًا ساكنًا، بل هو مشروع مفتوح أمام الإنسان ليكتشفه ويُحسن التعامل معه، لذلك، نحن بحاجة إلى بناء فقه توازنى يفرق بين العبث بالخلقة، وبين الاستفادة من العلم ضمن حدود الأخلاق والمصلحة العامة.

*فى رأيك، هل الفقهاء المعاصرون مواكبون لهذا النوع من القضايا؟ وما المطلوب منهم؟

بكل صراحة، بعض الفقهاء المعاصرين غير مؤهَّلين بعد للتعامل مع هذه القضايا، لأن أدواتهم المعرفية متوقفة عند سياق فقهى تقليدى لا يعرف البيوتكنولوجيا ولا فلسفة العلم، وهناك فجوة مؤسفة بين بعض رجال الدين والعلماء فى ميادين الجينوم والذكاء الاصطناعى والروبوتات.

المطلوب اليوم ليس فقط تحديث فى “موضوعات” الفقه، بل فى تكوين الفقيه نفسه، ينبغى أن يكون الفقيه مدربًا على مناهج البحث العلمي، وله دراية بأساسيات البيولوجيا وعلوم الحياة الحديثة، وأن يتعاون مع العلماء فى لجان اجتهادية متخصصة، بمعنى آخر، الفتوى لم تعد قرارًا فرديًا، بل صارت عملًا تشاركيًا مؤسسيًا يتطلب معرفة دقيقة، وعقلًا نقديًا، وشجاعة فكرية.

*وما الفرق بين المساواة والعدالة فى فلسفة التشريع الإسلامي؟

الفرق جوهري، المساواة تعنى أن يُعامل الجميع بنفس الطريقة دون تفريق، وهى مقاربة رياضية حسابية، أما العدالة، فتعنى أن يُعطى كل ذى حق حقه بحسب استحقاقه وظروفه وحاجاته ومسئوليته، وهى مقاربة أخلاقية واقعية.

فى فلسفة التشريع الإسلامي، العدالة مقدّمة على المساواة، لأنها تُراعى السياق، والوظيفة، والتكليف، والنتائج، لذلك، ليست كل فروق التشريع بين الرجل والمرأة ظلمًا أو تمييزًا، بل قد تكون لتحقيق مصلحة نوعية عادلة.

العدالة هى تحقيق التوازن، لا المطابقة، وهى جوهر الإسلام، والميزان الذى تقوم به السماء والأرض.

*كيف نعيد تقديم الشريعة الإسلامية بشكل يجعلها قابلة للتفاعل مع قضايا العصر دون أن نفرّط فى ثوابتها؟

بداية، لا بد أن نُفرّق بين الشريعة كمقاصد وأهداف، وبين الفقه كتاريخ بشرى فى فهم النصوص.

إعادة تقديم الشريعة يعنى أولًا تحريرها من الجمود الفقهي، ومن التأويلات السلطوية، ومن التديّن الشكلي، نحن بحاجة إلى نقل مركز الثقل من الحرفية إلى المقاصد، ومن الجمود إلى الحركة، ومن الانغلاق إلى الانفتاح العقلاني.

الشريعة الإسلامية قادرة بطبيعتها على التفاعل مع المستجدات، لأنها بُنيت على قواعد الاجتهاد، واعتبار المصلحة، ودفع الضرر، ورفع الحرج.

ما نحتاجه هو مشروع تجديدى شامل، يُعيد صياغة علاقتنا بالشريعة، ويُقدّمها للعصر لا كأنها “نظام مغلق”، بل كـ”مرجعية حية”، تنطلق من الواقع المتغير إلى الوحى ثم تعود إلى الواقع، وتظل هذه الحركة متجددة بتجدد الظروف والمتغيرات.

*ما هى مواصفات الشخص المتطرف من وجهة نظرك؟

الشخص المتطرف ليس فقط من يحمل سلاحًا أو يكفّر غيره، بل هو بالأساس شخص صاحب بنية عقلية مغلقة، يتميز بخصائص محددة يمكن التعرف عليها، منها الإطلاقية فى التفكير، بحيث يرى أن ما يعتقده هو الحقيقة المطلقة، وما عداه باطل، والثنائية الحادة بحيث يصنّف العالم إلى دار السلام ودار الحرب، وغياب النقد الذاتى بحيث يرفض مراجعة أفكاره، ويعتبر التغيير خيانة، بالإضافة إلى التبرير الانتقائى للنصوص، انعدام الحس الإنسانى المشترك.

المتطرف قد يبدو ظاهريًا ملتزمًا أو مثقفًا أو وطنيًا، لكنه فى العمق يعانى من جمود ذهني، وفقر فى الخيال الأخلاقي، ورفض للتعدد.

*فى رأيك، كيف يؤدى امتلاك الحقيقة المطلقة إلى ممارسات عنيفة أو إقصائية؟

امتلاك الحقيقة المطلقة هو أخطر ما يمكن أن يدّعيه الإنسان، لأنه ينتقل من “احتكار الاعتقاد” إلى “احتكار السلطة”. حين يظن الفرد أنه يحتكر الحقيقة، فإنه يمنح نفسه حق محاكمة الآخرين، بل وإدانتهم وربما تصفيتهم.

العنف هنا ليس ضرورة جسدية فقط، بل يبدأ من العنف الرمزي: تكفير، تخوين، تسفيه، تجريم. 
هذا النوع من التفكير يلغى الحوار، لأنه لا يعترف بحق الآخر فى أن يختلف، ومن ثم، تتحول “الحقيقة” إلى أداة للهيمنة والقمع.

وهذا لا يقتصر على الدين، بل يمكن أن يُمارَس فى السياسة، أو الأيديولوجيات غير الدينية، أو حتى فى العلم إذا غاب الوعى النقدي.

لهذا لا أقبل أن نختزل “التطرف” فى الصورة الدينية فقط، لأن ذلك يحجب أنماطًا أخرى لا تقل خطورة، مثل التطرف السياسى الذى ينتج فاشيات حديثة، أو التطرف القومى الذى يبرر الإبادة، أو التطرف العلموى الذى يسخر من الروح.

*تحدثتم من قبل عن “الحواضن الفكرية الأولى” كجزء من مشكلة التطرف، هل هذه الحواضن تشمل فقط الجماعات المتطرفة، أم قد تمتد لمؤسسات تعليمية ودينية تقليدية؟

نعم، الحواضن الفكرية الأولى هى المصدر الأصلى الذى يتكوّن فيه عقل الإنسان، وهى لا تقتصر على الجماعات المتطرفة المباشرة، بل كثير منها يتشكل داخل بعض الجهات فى عدد من البلدان، فى المدرسة التى تكرّس الطاعة دون نقد، فى بعض مناهج التعليم التى تُدرّس التاريخ كصراع دينى دائم، فى بعض خطب الجمعة التى تُقدّم الدين كحرب ضد الآخر لا كجسر للتواصل، فى الأسرة التى تُربّى الطفل على ثقافة التقليد لا على ثقافة التفكير.

بهذا المعنى، قد لا تكون الجهة تقصد التطرف، لكنها تُنتج مناخًا يمهّد له دون أن تدري، بسبب غياب المنهج العقلى التربوى وانغلاق الخطاب التفسيرى للنصوص.

*كيف يمكننا إصلاح هذه الحواضن دون إثارة مقاومة مجتمعية أو اتهامات بعدم احترام الهوية الدينية؟

الإصلاح لا يبدأ بالهدم، بل بالفهم والتدرج والتأصيل،نحن بحاجة إلى خطاب إصلاحى يتكئ على الوحى الكريم مباشرة كمرجعية عليا، لكن بمنهج مختلف، والخطأ الأكبر أن يأتى الإصلاح بروح عدائية  للهوية، مما يُشعل الغرائز الدفاعية عند الجمهور.

وما أقترحه هو مسار متعدد الجبهات، أولا إصلاح التعليم بدمج التفكير النقدى فى المناهج، وتعليم الطلاب الفرق بين النص والتفسير، وإصلاح الخطاب الدينى من الداخل عبر تدريب الدعاة والأئمة على المناهج التأويلية الحديثة، دون المساس بجوهر العقيدة، وتقديم نماذج جديدة للخطاب العام تُظهر الدين كرحمة للعالمين، لا كهوية قتالية، وبناء شراكات بين المؤسسات الدينية والعلمية والثقافية: بحيث لا يُترك الإصلاح لجهة واحدة، بل يكون عملًا وطنيًا شاملًا.

الإصلاح الذكى لا يهدم المقدس، بل يحرّره من الاستخدام الخاطئ، ويعيد تقديمه فى سياق معاصر يليق بجوهره.

*ما هو الدور الذى يجب أن تلعبه الجامعات فى هذه الثورة العقلية؟ وهل يكفى تعديل المناهج الدراسية فقط؟

بشكل عام الجامعات يجب أن تكون قاطرة الثورة العقلية، لا مجرد مؤسسات تعليمية تمنح شهادات، ومهمتها لا تقتصر على تعديل المناهج، بل تشمل تغيير فلسفة التعليم نفسها.

نحن بحاجة إلى الانتقال من “التلقين” إلى “التكوين”، ومن “التكديس المعرفي” إلى “التحليل النقدي”.

تعديل المناهج مهم، لكنه غير كافٍ ما لم يصاحبه تدريب الأساتذة على استخدام مناهج جديدة تقوم على المشاركة والتفكير الحواري، وتشجيع البحث العلمى الحر القائم على إثارة الأسئلة لا قمعها، وإنشاء وحدات بحثية متخصصة فى تحليل ظواهر التطرف والعنف الرمزى والفكرى من منظور عابر للتخصصات.

الجامعة ليست فقط “نظامًا أكاديميًا”، بل مؤسسة عقلية وثقافية تشكل وعى الأجيال القادمة، ولذلك لا يمكن أن تكون محايدة فى معركة العقل والجهل.

*ما هى الخطوات التى تقترحها لتحديث الخطاب الدينى ؟

الخطوات التى أقترحها هى كالآتي، أولا الانتقال من فقه الجزئيات إلى فقه المقاصد الكلية: بحيث يُعاد بناء الخطاب على مبادئ الحرية والعدل والمصلحة وكرامة الإنسان والدولة الوطنية، ثانيا إعادة تأهيل الكوادر الدعوية والعلمية: من خلال دورات متخصصة فى فلسفة الدين، ومناهج التأويل، وعلم الاجتماع الديني، وعلم النفس المعرفي، ثالثا إدخال المناهج المعاصرة فى الفقه والفكر النقدى والمقارنة بين الأديان،

رابعا نقل مركز الثقل من النصوص الثانوية إلى النصوص التأسيسية: والتمييز بين “الوحي” و”التراث” كمنتجين معرفيين مختلفين، خامسا تفكيك الأساطير البشرية الموروثة التى تُعطى طابعًا مقدسًا رغم كونها نتاجًا بشريًا أو سياسيًا فى كثير من الأحيان، فالهدف ليس المساس بالدين، بل إنقاذ الدين من التوظيف المغلوط والانغلاق المذهبي.

*ذكرت من قبل 11 شرطًا لتحول المتطرف إلى قائد مدني، ما الشرط الذى تراه الأكثر صعوبة؟ ولماذا؟

من بين الشروط الـ11 التى حددتها، أعتقد أن أصعبها هو “القدرة على مساءلة الذات والانفصال عن مرجعية الجماعة”. لأن هذه المرحلة تتطلب أن يعيد المتطرف بناء هويته الفكرية خارج الإطار الذى شكّله منذ بدايته.

المتطرف عادة ما يكون قد دمج ذاته بالطائفة التى ينتمى اليها، ويعتقد أن خلاصه مشروط بولائه المطلق للجماعة أو الفكرة أو المرشد.

لذلك، الانفصال عنها يُشبه عنده الانتحار الرمزى من حيث الشعور بفقدان المعنى والمكان والانتماء.

وهنا يكمن التحدى الحقيقى فى برامج التأهيل: كيف تُقنع المتطرف بأنه يمكن أن يُعيد بناء ذاته بوصفه “فاعلًا حرًا”، لا تابعًا مبرمجًا؟

هذا يتطلب اشتغالًا عميقًا على البنية النفسية، وإعادة بناء الثقة بالذات، وتأسيس منطق بديل للمشروعية.

*لو كان لك أن تختصر مشروعك الفكرى فى فقرة واحدة، فماذا تقول؟

مشروعى ليس صراعًا ضد التراث، ولا انحيازًا أعمى للحداثة، بل تفكيك نقدى لما يعوق التقدم فى كليهما، من أجل تأسيس وعى جديد يجمع بين الإيمان العميق، والعقل النقدي.

نسعى من خلاله إلى إخراج الدين من أسر التقليد والتكرار، وإعادته إلى وظيفته الكبرى كقوة تحرير وعمران، لأن المعركة الحقيقية ليست بين القديم والجديد، بل بين الفكر الحى والفكر الميت.


الحوار منقول بتصرف عن النسخة الورقية لـ “فيتو”

ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.

تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا

تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا

تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــــنا

تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا

الجريدة الرسمية