رئيس التحرير
عصام كامل

القارئ الشيخ محمد صديق المنشاوي وحكاية مائة عام مع القرآن الكريم حيًا وميتًا.. ونص وصيته الأخيرة

الشيخ محمد صديق المنشاوي،فيتو
الشيخ محمد صديق المنشاوي،فيتو

"خذوا القرآنَ مِمَّنْ إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى اللهَ"، ولعل القاريء العظيم محمد صديق المنشاوي –الذي تحل اليوم ذكرى ميلاده الرابعة بعد المائة- واحدٌ من هؤلاء الخاشعين المتبتلين، من بين مئات القراء الذين عرفتهم الإذاعة المصرية طوال تاريخها –الذي يقترب حثيثًا من مائة عام- يبقى "المنشاوي" واحدًا من أهم القراء وأكثرهم خلودًا. شهرة "المنشاوي" لا تقتصر على النطاق المحلي، بل طافت العالم بأسره ولا تزال.

الشيخ محمد صديق المنشاوي في  نزهة خلوية!

Advertisements

100 عام في رحاب القرآن الكريم

الأوراق الثبوتية الرسمية تنبيء إلى أن "المنشاوي" أبصر النور في مثل هذا العام قبل مائة وأربعة أعوام بمدينة المنشاة، في محافظة سوهاج، لأسرة قرآنية من طراز فريد. كان الأب والجد والعم من الحفظة المجيدين. 

والده الشيخ "تايب" ترك تسجيلات نادرة تكاد تكون هي المعين الطاهر الذي نهل منه "المنشاوي" وأضاف عليه بما وهبه الله من فتوحات وفيوضات ربانية. لم يحتج الطفل الصغير أكثر من 8 سنوات؛ ليتم حفظ محكم التنزيل، ما يعني أن رحلة "المنشاوي" مع القرآن الكريم حيًا وميتًا تقتر من العام المائة.

الشيخ محمد صديق المنشاوي شابًا

 تعلم “المنشاوي” أحكام التلاوة وعلوم التلاوات على يد شيخيه: محمد السعودى ومحمد أبوالعلا. سريعًا ذاع صيت الفتى "المنشاوي"، حتى ذهبت الإذاعة المصرية إليه في صعيد مصر، واعتمدته في خمسينيات القرن الماضي. يعتبر كثير من المؤرخين والمدققين أن "المنشاوي" –الذي تم اعتماده إذاعيًا في العام 1953- هو آخر القراء العِظام إذاعيًا، وأن الإذاعة لم تعتمد قارئًا عظيمًا مثله ومثل:  الأكابر: محمد رفعت ومصطفى إسماعيل وعبد الباسط وعبد الصمد ومحمود علي البنا منذ ذلك التاريخ. الأديب القدير محمد القوصي –رحمه الله- قال عنه: "إنَّ الشيخ المنشاوي أغلقَ بابَ تلاوة القرآن من بعده، فلا يستطيعُ أحدٌ من القُرّاء أن يقتربَ من أدائه الفريد، ومن صوته الملائكي".

 

أعلى نسبة استماع

الشيخ محمد صديق المنشاوي

 ورغم رحيله قبل 55 عامًا، وتوافر تسجيلاته في الفضاء الإلكتروني وبعض الفضائيات القرآنية إلا إن مسؤولي إذاعة القرآن الكريم يؤكدون أن الشبكة تحظى بأعلى نسب الاستماع عند إذاعة تلاواته المرتلة والمجودة. 

أجمع كل من عاصره على أنه كان مبدعًا ترتيلًا وتجويدًا، وأنه كان مدرسة غير مسبوقة في التلاوة.

الكارت الشخصي للمنشاوي يعكس تواضعه الجم

 

وعلى المستوى الشخصي أكدوا أن "المنشاوي" كان إنسانًا ودودًا وقريبًا من زملائه، وحريصًا على التواصل مع كُل القراء، وكان لا يشعر بأي تعالٍ أو تميُّز عنهم، رغم الشهرة العظيمة التي كان يحظى بها محليًا وعربيًا، ونلمس ذلك في بساطة الكارت الشخصي به؛ حيث عرَّف نفسه بـ"خادم القرآن الكريم"، ولم يكتب كما يكتب غيره ممن يضفون على أنفسهم أوصافًا أسطورية لا يملكون منها شيئًا مذكورًا.

الشيخ محمد صديق المنشاوي برفقة الشيخ محمود خليل الحصري

شهادات على المنشاوي

ظل "المنشاوي" في حياته وبعد موته المفاجيء عن 49 عامًا مثار إعجاب ودهشة مِن كل مَن يستمع إلى صوته؛ حيث كان صوته وأداؤه يأسران القلوب قبل الأسماع.

 أجادَ "المنشاوى" تجويدَ القرآن الكريم بجميع المقامات، وتميَّزَ في مقام "النهاوند"، حتى أطلقَ عليه معاصروه: "الصوت الباكى". 

الإمام محمد متولي الشعراوي قال عن "المنشاوي": "من أراد أن يستمع إلى خشوع القرآن، فليستمع لصوت المنشاوي”. لا أظن أن هناك وصفًا يفي "المنشاوي" حقه. "المنشاوي" حكاية قرآنية خالدة عابرة للتاريخ والعصور والأزمان

"الصوت الباكي".. أبرز المحطات في حياة الشيخ محمد صديق المنشاوي | فيديو جراف

"في تقديري.. إنه يُمكنُ التعليقُ على أيِّ قارئ من القرَّاء، إلاَّ المنشاوي الذي يُمثِّلُ حالة استثنائية، يحارُ أمامَها الذائق الفَهِمُ؛ فمن يتأمَّلْ مخارجَ الحروفِ عنده يصعب أنْ يجد لها وصفًا، وذلك لِمَا منحه اللهُ من حنجرة رخيمة، ونبرةٍ شجيةٍ تلينُ لها القلوبُ والجلود معًا"، بحسب الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب الذي كان مُقربًا من نجوم التلاوة في عصره مثل: الشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل.

الشيخ محمد صديق المنشاوي أثناء التلاوة

يدلل "عبد الوهاب" على عبقرية "المنشاوي" قائلًا: "يتجلَّى ذلك عند ختامُه للتلاوة، فتراهُ يستجمعُ كلَّ إبداع التلاوة في آخر آيتين، بحيثُ يجعلكَ تعيشُ معه أشدّ لحظاتِ الخشوع على الإطلاق، وما عليكَ إلاَّ أنْ تتأملَ استرساله ما بينَ السرعة والتلقائية العجيبة، كما في سورة "الإسراء"، وبينَ الهدوء وخفض الصوت كما في سورة "العَلَق"، عند قراءته: "كلاَّ إنَّ الإنسان ليطغى أنْ رآه استغنى، إنَّ إلى ربك الرجعى...".

ذكريات نعينع

القاريء الطبيب أحمد نعينع الذي عاصر "المنشاوي" فترة قصيرة، لا يزال يحمل في ذاكرته بعض الذكريات الطيبة، منوهًا إلى أنه التقاه مرتين خلال العام 1968، وتعامل معه بود ولطف شديدين وأثنى على تلاوته، وكان لا يزال شابًا واعدًا.

يذكر "نعينع" -الذي تم اعتماده إذاعيًا العام 1979- أنه طلب من "المنشاوي" صورة شخصية، فأرسلها إليه، ولا يزال بعد كل هذه السنين محتفظًا بها ويعتبرها من مقتنياته الشخصية المهمة، مؤكدًا "دائمًا ما أدعو للشيخ المنشاوي، وأخصص وردًا قرآنيًا يوميًا، أهبُه لروحه مع والدى ووالدتي وأحبابي”.

قصة رفض محمد صديق المنشاوي القراءة أمام جمال عبد الناصر

اجتماع عاجل للعائلة المنشاوية..ما السبب؟!

كان الشيخ "المنشاوي" –فضلًا عن صوته الآسر الأخاذ- متين الأحكام والإحكام، متقنًا علوم التلاوة وفنونها ومباحثها المتعددة. في إحدى تلاواته..قرأ "المنشاوي الآية السابعة والأربعين من سورة "الروم" التي تقول: "..فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ"، هكذا: "فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا"، وسكت، ثم أردف: "عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ". وهو بهذه القراءة، جعل الانتقام الإلهي من المجرمين حقًا في الجزء الأول، وفي الجزء الثاني تعهد رباني بنصر المؤمنين.

ما فعله "المنشاوي" في هذه الآية الكريمة يتصل بفن الوقف والابتداء، وهو من أهم المباحث في علم التجويد التي ينبغي على قاريء القرآن الكريم الاهتمام بها وإتقانها؛ فبمعرفتها وتطبيقها تكون معاني الآيات واضحة بينة للقارئ والسامع، ويجب أن يقود الوقف والابتداء إلى معنى سليم غير مخل ولا مختل ولا فاسد.

الغريب في الأمر أن "المنشاوي" عندما قرأ بالشكل الموضح سلفًا، وكان ذلك في مطلع ستينيات القرن الماضي، وكان القاريء قد بلغ أوج شهرته وذروة توهجه..احتج أحد الكُتاب، وانتقده بشدة، واعتبر قراءته خاطئة، والأكثر غرابة أن عائلة "المنشاوي" القرآنية  لم تتجاهل هذا الاحتجاج، ولم تتعالَ على صاحبه، بل أخذته على محمل الجد، ودعت عبر عمّه الشــيخ أحمد السيد تايب المنشــاوي، وكان قارئًا فقيهًا، إلى اجتماع عاجل؛ ليبحَثوا إن كان الشيخ "محمد" اجتهد فأصاب، أم أخطأ، لِيرُدُّوا على أنفسهم قبل الرد على الكاتب بإنصاف الشــيخ محمد صـدِّيق المنشــاوي ؛ خاصةً مع التأكد من اكتَمال المعنى السليم بالوقف، وتوافقه مع إحدى القراءات المتواترة.

الشيخ محمد صديق المنشاوي

ولا شك أن هذا الموقف العابر يعكس أمرين، أولهما: إتقان الشيخ رحمه الله، والثاني: حرص العائلة المنشاوية على كتاب الله قبل أي اعتبار آخر، وهو الأمر الذي يفتقده كثير من قرآن هذا الزمان الذين يخطئون وهم يقرأون من المصحف، ولا يتقنون وقفًا ولا ابتداءً، ويتوهمون أن الأمر خبط عشواء، لا يتطلب فهمًا، ولا يحتاج دراسة، وهو ما نشاهده ونسمعه في الفترات الأخيرة عبر قرآن الفجر وقرآن الجمعة وفي الأمسيات والتلاوات المسجلة، دون رقيب أو حسيب!

52 عاما على رحيل الشيخ محمد صديق المنشاوي.. صوت السماء الباكي | فيديو جراف

 

وصية المنشاوي

لم يكن "المنشاوي" مجرد قاريء للقرآن الكريم، بل كان يعيشه بكل حواسه، وفي كل تفاصيل حياته، حتى إنه كان حريصًا على أن يوصى أولاده وأحفاده دائمًا بقول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين". ولو لم يكن "المنشاوي" صادقًا ما كتب الله كل هذا الخلود، وكل هذه المحبة في قلوب عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

 

اجلس؛ فإن هنا قلبًا يتكلم بالقرآن

وأخيرًا.. فإن أعظم ما قيل في عن الشيخ محمد صديق المنشاوي هو:"المنشاوي..ذلك المسافر من أثقال التراب إلى معارج الملائكة..صوت غريب عتيق، إذا حزن كأنما يتنفس في صدر سيدنا يعقوب، وإذا خشع فكأنما يجلس في ظلال العرش، وإذا وعظَ فقرأ: "قد خلت من قبلكم سُنَنٌ"، فكأنما يجلس فوق منبر الأزمنة؛ ليقُصَّ على الناس مُخبآت الحِكَم والأقدار، وإذا قرأ آيات البشارة فكأنما طمع في الفرح كله، فصبَّه في ذبذبات صوته الحنون بلا بهرج ولا صخب ولا افتعال..هو ذلك الصوت الأوَّاب الذي يقول لك: اجلس؛ فإن ها هنا قلبًا يتكلم بالقرآن، ولن يكون حالك بعد السماع مثل حالك قبلها أبدًا؛ إنه لينثر في حقول الصدور بذور الآخرة"!

ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار، أسعار اليورو، أسعار العملات، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار الاقتصاد، أخبار المحافظات، أخبار السياسة، أخبار الحوادث، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي، الدوري الإيطالي، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا، دوري أبطال أفريقيا، دوري أبطال آسيا، والأحداث الهامة والسياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية.

الجريدة الرسمية