رئيس التحرير
عصام كامل

الطريق‭ ‬إلى‭ ‬تل‭ ‬العقارب

تندهنى‭ ‬نداهة‭ ‬الحى‭ ‬العتيق‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬تعارفت‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬القاهرة‭ ‬أثناء‭ ‬مرحلة‭ ‬الإعدادية،‭ ‬عندما‭ ‬بدأت‭ ‬أطل‭ ‬فى‭ ‬إجازة‭ ‬المدارس‭ ‬على‭ ‬العاصمة..‭ ‬والحى‭ ‬الذى‭ ‬ينادينى‭ ‬دوما‭ ‬هو‭ ‬حى‭ ‬السيدة‭ ‬زينب‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يحمله‭ ‬من‭ ‬روحانيات،‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تحدد‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬مصدرها‭ ‬جدرانا‭ ‬قديمة‭ ‬أو‭ ‬حوارى‭ ‬عتيقة،‬ يكفى‭ ‬أن‭ ‬ينتهى‭ ‬بك‭ ‬المنتهى‭ ‬إلى‭ ‬إطلالة‭ ‬مئذنة‭ ‬السيدة‭ ‬زينب‭.‬

Advertisements


وكانت‭ ‬نصائح‭ ‬الأشقاء‭ ‬العارفين‭ ‬ببواطن‭ ‬الأمور‭ ‬أن‭ ‬انتبه‭ ‬من‭ ‬مواقع‭ ‬بعينها‭ ‬بدأت‭ ‬تفسد‭ ‬المشهد‭ ‬الإنسانى‭ ‬العميق‭. ‬ هناك‭ ‬وفى‭ ‬الخلفية‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬السيدة‭ ‬زينب‭ ‬يقع‭ ‬تل‭ ‬العقارب،‭ ‬وتل‭ ‬العقارب‭ ‬لمن‭ ‬زاره‭ ‬منطقة‭ ‬خطر‭ ‬كبير‭ ‬يحيق‭ ‬بك‭ ‬بمجرد‭ ‬الدخول‭ ‬إليه‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عتامة‭ ‬المشهد‭ ‬وفوضويته،‭ ‬وعشوائية‭ ‬تسربت‭ ‬إلى‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬مناطق‭ ‬النور‭ ‬فى‭ ‬عاصمة‭ ‬المعز‭.‬


وكبرنا‭ ‬وتسرب‭ ‬العمر‭ ‬كدفقة‭ ‬ماء‭ ‬بين‭ ‬كفين،‭ ‬ولايزال‭ ‬الخوف‭ ‬يطاردنا‭ ‬إن‭ ‬مضينا‭ ‬بجوار‭ ‬تل‭ ‬العقارب،‭ ‬فتمضى‭ ‬بعيدا‭ ‬على‭ ‬الرصيف‭ ‬الآخر‭ ‬وتنظر‭ ‬مليا‭ ‬إلى‭ ‬المكان،‭ ‬فإن‭ ‬اختطفتك‭ ‬لحظة‭ ‬فضول‭ ‬لابد‭ ‬وأن‭ ‬تندم‭ ‬أنك‭ ‬دخلت‭ ‬إلى‭ ‬الموقع‭ ‬المحاط‭ ‬بكل‭ ‬صنوف‭ ‬العشوائية‭ ‬القبيحة‭.‬


لا‭ ‬تعرف‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬يعيشون‭ ‬هنا‭ ‬يستحقون‭ ‬ما‭ ‬هم‭ ‬فيه،‭ ‬أو‭ ‬إن‭ ‬كانوا‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬صنعوا‭ ‬تلك‭ ‬العشوائية‭ ‬البغيضة‭ ‬فى‭ ‬غير‭ ‬موضعها،‭ ‬وتخلص‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ثلاثين‭ ‬عاما‭ ‬قضيناها‭ ‬مع‭ ‬عصر‭ ‬مبارك‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يحمل‭ ‬من‭ ‬سلبيات‭ ‬وإيجابيات‭ ‬هى‭ ‬الرحم‭ ‬الذى‭ ‬أتى‭ ‬إلينا‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬نحياه‭ ‬الآن‭.‬


العشوائية‭ ‬ابنة‭ ‬نظام‭ ‬مبارك‭ ‬قولا‭ ‬وفعلا،‭ ‬وفساد‭ ‬المحليات‭ ‬تربى‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬العصر،‭ ‬وهشاشة‭ ‬النظام‭ ‬التعليمى‭ ‬أنتج‭ ‬لنا‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬نعيش‭ ‬فى‭ ‬كنفهم،‭ ‬وبينهم،‭ ‬بما‭ ‬فيهم‭ ‬نحن‭ ‬وما‭ ‬نحمل‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جينات‭ ‬القبح‭.. ‬اكفهر‭ ‬وجه‭ ‬العاصمة‭ ‬وتمددت‭ ‬العشوائية‭ ‬لتحيط‭ ‬بكل‭ ‬مناطق‭ ‬النور‭ ‬فيها‭.

‬تطوير تل العقارب


كعادتى‭ ‬أترك‭ ‬سيارتى‭ ‬بعيدا‭ ‬جدا‭ ‬وأسير‭ ‬على‭ ‬قدماى‭ ‬هناك‭ ‬فى‭ ‬الحى‭ ‬العبقرى،‭ ‬تنهشنى‭ ‬حفرة‭ ‬ويلقى‭ ‬بى‭ ‬رصيف‭ ‬مرتفع‭ ‬للسقوط‭ ‬فأعود‭ ‬لأمضى‭ ‬مشدوها‭ ‬ومشدودا‭ ‬لبنايات‭ ‬قديمة‭ ‬من‭ ‬مستشفى‭ ‬أحمد‭ ‬ماهر‭ ‬إلى‭ ‬مدارس‭ ‬لاتزال‭ ‬بناياتها‭ ‬تشهد‭ ‬على‭ ‬عظمة‭ ‬الحى‭ ‬النابض‭ ‬بالحركة‭ ‬والناس‭ ‬والحياة‭.‬


في‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬جئت‭ ‬من‭ ‬الخلف.. ‬خلف‭ ‬بيت‭ ‬السيدة‭ ‬البطلة‭ ‬العظيمة‭ ‬الطاهرة.. ‬السيدة‭ ‬زينب،‭ ‬ودون‭ ‬إرادة‭ ‬منى‭ ‬عبرت‭ ‬إلى‭ ‬الرصيف‭ ‬الآخر.. ‬ بعيدا‭ ‬عن‭ ‬تل‭ ‬العقارب‭ ‬ورغم‭ ‬الزحام‭ ‬الشديد‭ ‬غابت‭ ‬عيونى‭ ‬هناك‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬المفاجأة.. ‬تل‭ ‬العقارب‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬تلا‭ ‬وقد‭ ‬خلا‭ ‬من‭ ‬العقارب‭.‬


عبرت‭ ‬الطريق‭ ‬عائدا‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الخوف‭ ‬يقيم‭ ‬ولا‭ ‬يسكن..‭ ‬نعم‭ ‬كان‭ ‬الخوف‭ ‬ماردا‭ ‬موحشا‭ ‬ومرعبا‭ ‬يقيم‭ ‬فى‭ ‬التل..‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬تلا‭ ‬بالفعل.. ‬بنايات‭ ‬على‭ ‬طراز‭ ‬معمارى‭ ‬يعيد‭ ‬الهيبة‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬ويضيف‭ ‬على‭ ‬وجوه‭ ‬الناس‭ ‬حالة‭ ‬رضا‭ ‬وأمان‭ ‬ويطرح‭ ‬ثمارا‭ ‬من‭ ‬شجرة‭ ‬العمار‭ ‬الوارفة‭.‬


مضيت‭ ‬غير‭ ‬مصدق‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬التل‭ ‬ليس‭ ‬تلا،‭ ‬والعقارب‭ ‬أشجار‭ ‬تحيط‭ ‬بالمكان،‭ ‬والنور‭ ‬يتسرب‭ ‬من‭ ‬شوارع‭ ‬عريضة،‭ ‬وأطفال‭ ‬يلعبون‭ ‬الكرة‭ ‬فى‭ ‬أمان‭ ‬وفرحة‭ ‬تغمر‭ ‬المكان‭ ‬والزمان.. ‬ماذا‭ ‬حدث؟‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬تل‭ ‬العقارب‭ ‬تلا‭ ‬للعقارب‭ ‬وأصبح‭ ‬المكان‭ ‬باسمه‭ ‬وشكله‭ ‬وفلسفته‭ ‬الجديدة.. ‬روضة‭ ‬السيدة.. ‬سبحان‭ ‬مغير‭ ‬الأحوال‭.‬


سبعة‭ ‬أفدنة‭ ‬كانت‭ ‬عنوانا‭ ‬وشعارا‭ ‬للموت‭ ‬والخراب‭ ‬والخوف،‭ ‬أصبحت‭ ‬قرابة‭ ‬الـ‭ ‬‮009‬‭ ‬وحدة‭ ‬سكنية‭ ‬بنيت‭ ‬على‭ ‬طراز‭ ‬معمارى‭ ‬يوافق‭ ‬المزاج‭ ‬والتاريخ‭ ‬والحداثة‭ ‬لتتحول‭ ‬المنطقة‭ ‬إلى‭ ‬إطلالة‭ ‬نور‭ ‬يضيف‭ ‬إلى‭ ‬نور‭ ‬المساحة‭ ‬المباركة‭ ‬حول‭ ‬بيت‭ ‬السيدة‭ ‬زينب‭ ‬كل‭ ‬نماذج‭ ‬القدرة‭ ‬المصرية‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬الأوضاع‭.‬


في‭ ‬اليوم‭ ‬التالى‭ ‬دعوت‭ ‬أصدقاء‭ ‬وزملاء‭ ‬لزيارة‭ ‬روضة‭ ‬السيدة‭ ‬وقد‭ ‬تحادثنا‭ ‬مع‭ ‬أطفال‭ ‬يلعبون‭ ‬ويجرون‭ ‬ويقفزون‭ ‬بكرة‭ ‬وبدون‭ ‬كرة‭ ‬ودراجات‭ ‬يتسابق‭ ‬بها‭ ‬صبية‭ ‬كانوا‭ ‬حتى‭ ‬الأمس‭ ‬مدفونين‭ ‬فى‭ ‬المنطقة‭ ‬المنسية‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬صنوف‭ ‬الخدمات،‭ ‬بل‭ ‬ومن‭ ‬كل‭ ‬ألوان‭ ‬الإنسانية‭.‬

  


أدهشنا‭ ‬التغيير‭ ‬الحاصل‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتركنا‭ ‬مساحة‭ ‬من‭ ‬تمنى‭ ‬أن‭ ‬يمر‭ ‬مارد‭ ‬التغيير‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬لايزال‭ ‬يعيش‭ ‬فى‭ ‬عتمة‭ ‬فوضى‭ ‬ما‭ ‬عشناه‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬ثلاثين‭ ‬عاما‭ ‬من‭ ‬الفساد‭ ‬فى‭ ‬العمارة‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬الذمم‭.. ‬حقا‭ ‬إنها‭ ‬روضة‭ ‬السيدة‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬تلا‭ ‬للعقارب.  ‬

الجريدة الرسمية