رئيس التحرير
عصام كامل

عرفة الخير

أيُّ يومٍ أعظم من يومٍ أكمل الله فيه دينه، وأتمَّ فيه شرعه، وأعزَّ فيه عباده؟! فعَنْ أمير المؤمنين عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ–رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا، مِنَ اليَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]؛ قَالَ عُمَرُ: «قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ». [متفق عليه].

 


وقد اختص الله سبحانه وتعالى من يسّر لهم أداء فريضة الحج من عامهم هذا بوجوب اجتماعهم على عرفات في اليوم التاسع من ذي الحجة، وجعله ركن الحج الأعظم الذي يفوت الحج بفواته؛ قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]؛ مما يدلُّ دلالة قاطعة على أنَّ الوقوفَ بعَرَفة لا بدَّ منه، وأنَّه أمرٌ مسلَّم، وأنَّ الوقوفَ بالمُزْدَلِفةِ إنَّما يكون بعد الوقوفِ بعَرَفةَ، وقد أكد هذا المصطفى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال:«الْحَجُّ عَرَفَة». [أبو داود: 1949، الترمذي: 889، وقال: حسنٌ صحيح]. وقال ابنُ المُنْذِر: "أجمعوا على أنَّ الوقوف بعَرَفة فرض، ولا حجَّ لِمَن فاته الوقوفُ بها" [الإجماع لابن المنذر ص: 57].

 

الوقوف بعرفة
 

يقف حجيج بيت الله الحرام على عرفات (تلك البقعة الجغرافية المحدودة) على اختلاف طبقاتهم، وألوانهم، وأجناسهم، وألسنتهم، وأعمارهم في تناغم عجيب توحَّدت فيه قلوبهم ومقاصدهم، فكلٌّ يرجو رحمة الله، ويطلب رضاه، ويسأله من فضله العظيم. يجمعهم الوقوف بعرفة على صدق الأخوة تحقيقًا لما وردت الإشارة إليه فيقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات:10]؛ في إشارة رمزية لوجوب بناء مجتمع مسلم قويّ في كافة الأزمان، يصدق فيه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» [متفق عليه].


يجمعهم على الصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقعوا فيها، وعلى الأوامر والطاعات التي يؤدونها، وعلى الأقدار من مكابدة الحر، وحصول بعض المكاره حتى لا يسخطوها. فالجميع في عرفات يحترم بعضهم بعضًا؛ لتشاركهم جميعًا في تجربةٍ واحدة تجعلهم يقدّرون الجهد الذي يبذله كل واحد منهم في سبيل أن يتقبل الله منه حجه؛ {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].


وعلى قدر الجهد يأتي الجزاء من الله تعالى؛ فيَعِد الله سبحانه بعتق رقاب أهل هذا الموقف من النار؛ بل ويباهي بهم ملائكته؛ فقد ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رَضِيَ اللهُ عنها قالت: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟» [صحيح مسلم: 1348]، وفي رواية: «إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ فَيُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ» [صحيح ابن خزيمة: 2840]. 


وهل يختص حجيج بيت الله الحرام بهذه الميزات دون سواهم ممن لم يتيسر لهم أداء هذه الفريضة معهم؟!!
لم يحرم الله هؤلاء الذين لم يتيسر لهم أداء هذه الفريضة مع من وقفوا بعرفات الله من عامهم هذا؛ فوجّههم إلى ما فيه نفعهم بتكفيرسنة قبله وسنة بعده إذا هم صاموه؛ فقد ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ». [صحيح مسلم: 1162]..

 

 

 ففي صيام هذا اليوم لغير الحجيج تكفير لصغائر ذنوبهم؛ مصداقًا لقول الله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]،وقول المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَاةُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ» [صحيح مسلم: 233]؛ فتكفير الصغائر مشروط بترك الكبائر –عافانا الله من ارتكابها-. ويشترك غير الحجيج مع الحجيج في الدعاء في ذلك اليوم الذي نصّ المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أنه خير الدعاء؛ فقال: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ» [الترمذي: 3585].
تقبل الله صالح الأعمال وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الجريدة الرسمية