رئيس التحرير
عصام كامل

بوتين يعيد ما تفكك عمدًا

وضع الرئيس فلاديمير بوتين، العالم على أعتاب حربًا، بإجراءات متسارعة تنم عن حنكة ودهاء رجل مخابرات هادئ، تمكن من قيادة بلده إلى الاستقرار والازدهار بعدما تفكك الإتحاد السوفيتي قبل 30 عاما، لتنتهي الحرب الباردة وتسيطر الولايات المتحدة على العالم كقوة عظمى وحيدة.

 تولى الرئيس ميخائيل غورباتشوف، حكم الإتحاد السوفيتي في 1985 وبدأ سلسلة إصلاحات لانتشال البلاد من الركود، لكنه لم ينجح واستقال من الرئاسة في 25 ديسمبر 1991، وفي اليوم التالي مباشرة اعترف مجلس السوفيت الأعلى، باستقلال 15 دولة لينتهي وجود الاتحاد السوفيتي. 

 

صحيح كانت هناك أسباب أدت إلى الانهيار السوفيتي، لكن أيضا لعبت التدخلات الأميركية بمساعدة أدوار أوروبية متفاوتة، دورا لا يستهان به لتفكيك الاتحاد السوفيتي من أجل قيادة العالم والسيطرة عليه، تحقق الهدف لكن ترك الانهيار آثارا عميقة على روسيا.

 

أمضى الروس سنوات يحلمون بقائد يعيد الدولة إلى المقدمة، حتى جاء بوتين وبدأ الإصلاحات الشاملة وتهيئة روسيا لاستعادة موقعها ومكانتها، استغرق الأمر سنوات حتى أصبح رقما صعبا يفرض سيطرته على دول عدة وعينه على إعادة أمجاد الماضي حتى وان أنكر ذلك في تصريحاته الرسمية، مثلما نفى أمس "عزم روسيا إعادة بناء إمبراطورية وأنه يحترم سيادة جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، بإستثناء أوكرانيا التي أصبحت خادمًا للسادة الغربيين". كما قال في خطابه للشعب بأن "أوكرانيا تحت السيطرة الأجنبية ولم يعد لديها تقاليد دولة حقيقية، فهي أصبحت موطنا لتقاسم السلطة والفساد من قبل قادتها.. ومنطقة الشرق فيها وصلت إلى مرحلة حرجة".

 

خطة بوتين

صراحة بوتين، تنم عن أنه ماض في قراره ولن يتراجع، خصوصا أنه اتهم الولايات المتحدة مباشرة بدعم الانقلابات في أوكرانيا، وأنها "تنفق مليون دولار يوميا لدعم الانقلابات، وان الاستخبارات الأجنبية تساعد المخربين في أوكرانيا لجرها إلى النزاع ما يهدد أمن روسيا".

 رأى بوتين، أن الجمهوريات السوفيتية السابقة من حقها أن تكون مستقلة، لافتًا إلى أن دونباس سُحبت من سيادة روسيا وألحقت بأوكرانيا، وهذه الأخيرة كانت تسرق الغاز الروسي، ورغم ذلك فإنها تعيش أزمة اقتصادية وإنسانية واجتماعية، فساعدتها روسيا بأكثر من 150 مليار دولار بين 1991 و2010".

 

ما قاله بوتين بدا وكأنه يبرر نيته السيطرة على أوكرانيا، فهي بالنسبة لروسيا "ليست مجرد دولة مجاورة، بل جزء من تاريخنا، وأوكرانيا العصرية بشكلها الحالي شكلت بالكامل من قبل روسيا بعد ثورة 1917".

 

انتهت كلمة بوتين بقرار اعتراف روسيا بمنطقتي دونيتسك ولوغانيسك في الشرق الأوكراني المضطرب دولتين مستقلتين، ما أعاد إلى الأذهان ما حدث مع شبه جزيرة القرم في 2014، حيث شهدت اضطرابات مماثلة وأعلنت استقلالها عن أوكرانيا بدعم بوتين والمجلس الأعلى لشبه جزيرة القرم، وبعد إعلان الاستقلال قدم برلمان دولة القرم المستقلة، طلبا بالانضمام إلى روسيا، وبذلك سيطرت روسيا على القرم قانونيًا.

 

يؤيد تكرار سيناريو القرم مع المنطقتين المنفصلتين عن أوكرانيا، ما قاله رئيس المخابرات الروسية الخارجية، سيرغي ناريشكين، حين سأله بوتين، عن رأيه في الاعتراف بمنطقتي دونيتسك ولوغانيسك دولتين مستقلتين، فرد ناريشكين إنه "يدعم انضمام المنطقتين الانفصاليتين إلى الاتحاد الروسي لتصبحا جزءا منه". فضلا عن أن الزعيمين الانفصاليين، جلسا على الطاولة مع بوتين دون علم لدولة كل منهما المستقلة، فبينما جلس بوتين على طاولة، خلفه العلم الروسي، جلس زعيما دونيتسك ولوغانيسك "بلا علمين رسميين".

 

أوكرانيا ليست الهدف الوحيد للرئيس بوتين، بل هي فقط رأس جبل الجليد، في صراع روسيا مع أوروبا وأميركا، يريد بوتين تقليم أظافر أوكرانيا ومنع انضمامها إلى الناتو، لكي لا يتمدد الحلف الغربي على طول حدود روسيا ويهدد أمنها القومي ويتوسع شرقًا، بينما يسعى الغرب وأميركا إلى ضم أوكرانيا إلى صفه في الناتو لأنها كدولة تعتبر منطقة عازلة بين روسيا والغرب، ومع زيادة التوتر والتنافس مع روسيا، سعت الولايات المتحدة وأوروبا إلى إبعاد أوكرانيا عن السيطرة الروسية وضمها إلى الناتو.

 

 

ثمة سبب آخر يجعل الولايات المتحدة تزيد النار حطبا في الأزمة الروسية الأوكرانية، إذ تسعى بكل وسيلة لإيقاف مشروع خط أنابيب "نورد ستريم 2" لنقل مزيد من الغاز الروسي إلى أوروبا كلها، بأسعار تقل كثيرا عن الغاز القطري والغاز الصخري الأميركي، وبإتمام المشروع يزيد النفوذ الروسي في أوروبا ويزدهر اقتصاده وتضمحل أمامه الولايات المتحدة.

وعليه يستمر صراع النفوذ والمصالح والسيطرة لتبقى حقيقة واحدة أن العالم لا يعترف إلا بمنطق القوة، ومن يمتلك القرار والاكتفاء الذاتي والقوة العسكرية يهابه الجميع ولا يجد معه سبيلا، فالرئيس بوتين يعيد ضم ما تفكك عمدا في الماضي، حيث يدعم مناطق انفصالية في أوسيتيا الجنوبية وإقليم ناغورنو كاراباخ، بعد سيطرته على القرم ودونيتسك ولوغانيسك، وتبقى أوكرانيا الجائزة الكبرى.

الجريدة الرسمية