رئيس التحرير
عصام كامل

محمود أبو حبيب يكتب: وما ظلمك إلا ابن كارك

محمود أبو حبيب
محمود أبو حبيب

لا شك أن دور الإعلام هو دور توعوي، ومهمته هي البناء المعرفي والثقافي للشعوب، وواجب الإعلامي أن يلتزم بمبادئ هذه المهنة الجليلة، فهو مؤتمن على قيم المجتمعات، ومطالَب بعدم المساس بمعتقدات الناس ومقدساتهم. هكذا علمنا شيوخ المهنة وصناعها؛ أن نجمع شتات المعلومات بين دفتي كتاب أو قصة، أو رسالة إعلامية مصورة أو مقروءة؛ لنزيل الحيرة لدى القارئ والمشاهد، فيبصر العالم بنظرة واعية ورؤية كاملة، من أجل هذا ولهذا قامت مهنة الصحافة، وقفز الإعلام قفزات هائلة من سرعة إيصال المعلومة، خوفًا من أن يتيه الناس في سبيل معرفة الحقيقة.

لكن يبدو أن هناك بعض الإعلاميين شربوا من كأس واحد فافقدهم الوعي، وحاولوا أن يسقونا منه، وبدلا من أن يعاتب أحدهم  زميله ويطالبه بأن يقف موقف الشجعان تجاه ما بدر منه، علمًا بأن الاعتذار لا يقلل من المخطئ، وهو في الأصل فضيلة وسلوك حسن لا يقوم به إلا النبلاء، وواجب الإعلام الحر أن يرسخ له، حتى لا تصبح قيم المجتمعات -سداح مداح- ولا يعلي راية الكراهية ويزيد من وتيرة العداء بين الناس.

فبدلا من أن يكحل وأحد منهم نظر زميله، فيبصر الرجل  جريمته التي أصبحت واضحة جلية، زادوه غشاوة برفضهم غضب الناس تجاه الإساءة لمعتقداتهم والتشكيك فيها، وهو أمر لن يفيد صاحبهم في شيء بل سيجعل حظه من غضب الناس أضعافا مضاعفة، ولو حاولت أن أقنع نفسي بإن موقف بعض الإعلاميين هو محاولة لتسلية صديقهم والترويح عنه، لكن لم يكن مستساغ لدي ولا ادري من يستسيغه، أن يخاطب أحدهم الجمهور بأن الإعلامي الذي يلقي على مسامعك ما تكرهه أو ترفضه أو يجرحك في مشاعرك "ما تسمعوش  وانصرف لمن يعجبك طريقته وأسلوبه!"
وهذا الكلام خطير ويمكن أن نوضح ذلك في جملة  نقاط،


أولا: أنه بهذا الكلام يرسخ لفكرة الإعلام الذي يخدم أيدولوجية معينة، ومن يقبل ويقتنع به يشاهده، أما من يرفضه فما عليه إلا أن يستبدل هذه القناة بأخرى تتفق مع أيدولوجيته.


ثانيا: يطالب الإعلام أن يخدم استراتيجية فردية، بحيث يقوم المذيع ببث أفكاره وقناعاته الشخصية، وليس استراتيجية وطنية في تشكيل رأي عام راقٍ يخدم المجتمع ويحترم قناعات الناس. 


ثالثًا: الحجر على رأي الجمهور والمطالبة بأن يقبل ما يبث له أو ينصرف في صمت، وهو ما يفتح الباب أمام مقدمي المحتوى الهابط أن يستمروا في طريقهم ولا يهتموا لرفض الجمهور لحالة الانتهاك القيمي التي يحدثونها بمحتواهم الهابط. 


وإن كنت استهجن ما قيل عن موقف الناس تجاه صديقهم، الذي يحاول أن يلقي بتراثنا من أسمق القمم، وحسابه على ربه، لكن من حق الناس أن ترفض ما قاله وأن تطالب بأن يتوقف عن التمادي فيه، وهذا هو حكمهم واحترام حكم الجماهير أمر وأجب النفاذ، واحترام مشاعرهم لا خيار فيه ولا مراء، فليس من حق أحد أن يطالب الناس أن لا ترفض من يطعنها في معتقداتها.

لو كان هذا الإعلامي أو ذاك حاذقًا لما نطق بهذا الكلام ولا استنكر على الناس غضبها، وتساؤلي له، ولعله تساؤل كثير ممن شاهدوه،  ألا يستحق نبيك ودينك أن تطلب ممن يكذبه أو يشكك فيه أن يقدم اعتذاره؟!
أو لا يستحق زميلك الذي تتضامن معه أن تعلن تأييدك له فتقاسمه هذا اللوم، إن كنت تقتنع بما قال؟!
حالة الارتباك هذه في الخطاب الإعلامي تجعلنا نتساءل سؤالا أكاديميا للقائمين على تنظيم الإعلام، هل بعض الإعلاميين في حاجه إلى تدريب على فن إدارة الأزمات الإعلامية أو السقطات المهنية، هل بات بعضهم في حاجه إلى تذكير دائم بمواثيق المهنة وقواعد احترام حق المشاهد في الرفض والاعتراض؟


أغلب الظن عندي أن المسألة لم تكن خطأ فرديا أو زلة لسان وقع فيها إعلامي شطح خياله في التراث فوقع في تيه اللؤم والنبذ المجتمعي، فيُرفع عنه زلته بالاعتذار كي تغفر له خطيئته لدى الناس، القصة تعبر عن حالة من عدم الوعي نحياها بسبب غشاوة.. "وما ظلمك إلا ابن كارك أو مهنتك" في حالتنا هذه.‏

الجريدة الرسمية