رئيس التحرير
عصام كامل

أخطاء صغيرة جميلة

على طاولتي انسكب فنجان القهوة، فأسرعت لأحضر شيئا أنظف به آثارها، غير أن جدي طلب مني ألا أغادر المكان، وأخذ يحكي لي عن فتاة أحبها حين كان صبيا، لتمر الساعات دون أن يتوقف لحظة. 

كان يحكي ولمعة مذهلة لا تغادر عينيه، حتى أنني انشغلت عن القهوة المسكوبة، والتي جفت على الطاولة، بينما أمسك جدي بإبرة وراح ينقش حول البقعة نقوشا لم تتضح معالمها في البداية، ذلك لأن يده كانت ترتعش كما صوته وهو ينقش ويحكي، حتى إنني خلته هو نفسه تلك الفتاة الصغيرة التي يحكي لي عنها.

 

بعد نحو ساعة أخرى، انتهى جدي من نقوشه بيده المرتعشة التي أظنها أخطأت الرسم، ومع ذلك نجح في تحويل بقعة القهوة إلى صورة مرصعة بالتفاصيل.. صورة صبية طازجة كالفاكهة، مليحة كالوشم الأخضر في ذقن جدتي، مفعمة بالحياة كغرفة الأطفال.

 

فتاة جدي المرسومة بيده المرتعشة، هي مجموعة من الأخطاء الصغيرة الجميلة، التي باتت أكثر الأشياء صوابا في حياتي. لم يكتب جدي تحت الرسمة أن الأخطاء الصغيرة الجميلة هي ما تجعل تجربة الإنسان مكتملة، بل هي الإنسان نفسه.

 

خطأ لم يُرتكب

 

هل فكرت يوما في أن الخطأ الذي لم ترتكبه يشعر بأنك خذلته! فالأخطاء تظل محض خيال ما لم يرتكبها أحدهم فتصبح حقيقة. أنا شخصيا أعرف صيادا كلما ارتكب خطأ أودعه قفصا حريريا مفتوح الباب ومنحه بعضا من الحبوب ليتغذى عليها، والأن لديه مزرعة أخطاء حية تتنفس وتنمو وتتكاثر، وبعض أخطائه أصبح لديها أجنحة قوية تمكنها من الطيران والذهاب لأبعد مما ذهب الصياد نفسه يوما..

 

رحل الرجل وبقيت أخطاؤه شاهدا على أنه كان شجاعا يمكنه أن يخطئ كالأحرار.. حين اختفى الصياد ظننته قد مات، لكنني كلما صادفت واحدا من أخطائه تأكدت من أن الشجعان لا يموتون، إذ تتواصل حيواتهم في تلك الأخطاء التي ارتكبوها بكل جسارة وهم يختبرون الحياة.

 

امرأة تقف عارية

 

على الطريق امرأة تقف عارية تماما إلا من قفازين يغطيان يديها الغارقتين في الدماء، إذ أنها تقتلع بهما عيون المارة وتضع في مكان كل عين وردة، وحين فعلت ذلك في وجهي سألتها وهي تثبت أوركيدتين في محجري عيني عن السر، فقالت: لا يمكن للإنسان إخفاء قبح العالم لكن بإمكانه أن يرى الجمال دوما.

 

طيف لا يخطئ

 

في ليالي البعد، اكتشفت أن طيفها أكثر ولاء لي منها، فهو مثلا يأتيني كلما غابت ولا يتركني وحيدا إلا في حضورها - وهذا يحدث نادرا.. طيفها لا يمل مني، لا ينظر في الهاتف حين نكون معا، لا ينشغل بالرد على الرسائل، ولا يشرد بعيدا عني ليحدق في الأفق.. طيفها يحرص على أن يلقي التحايا الروتينية في مواعيدها: صباح الخير.. طبت مساء.. تصبح على خير..

 

كما أنه دائم السؤال: كيف حالك.. هل تناولت فطورك اليوم.. كم فنجانا من القهوة شربت هذا الصباح.. وأحيانا يتقمص دور الأم: لا تعرض نفسك لتيار الهواء البارد.. خذ الدواء في موعده.. انتبه لحالك.. أيضا هو مجامل بشكل لا يصدق: هذا اللون يليق بك.. ابتسامتك ساحرة.. أحب ما تكتب.. أذكر مرة -وربما كان ذلك حلما- أن طيفها قبل جبيني في ليلة باردة، ثم سحب الغطاء علي بشكل محكم وهو يهمس: نم جيدا.. أحلام سعيدة..

 

حين أخطأ جدي

 

قبل 80 عاما، اشترى  جدي قيراط حظ وفدان شطارة، زرع القيراط ببذور القهوة والفدان زرعه قطنا.. وفي موسم الحصاد لم يجن من القيراط سوى حفنة من حبوب البن.. أما الفدان فأنتج مئة قنطار من القطن طويل التيلة.. وفي تلك الأيام زار الملك قريتنا في طريقه إلى السودان، فأعجب بالقطن الذي زرعه جدي فقرر أن يقضي الليلة معه في الجرن يتسامران ليعرف منه سر ازدهار زراعته..

 

طحن جدي البن وأعد منه فنجانين من القهوة له وللملك، الذي شعر باعتدال مزاجه فأشعل سيجارة وألقى بعود الثقاب إلى جواره، دون أن يطفئه فأوقد -دون قصد منه- النار في القطن ليقضي على المحصول كله.. حزن جدي وكاد يموت كمدا لضياع مجهوده سدى، قبل أن يقف الملك متأهبا للرحيل، والذي ربت على كتف جدي ودس في يده خمس ورقات من فئة مئة جنيه وأنعم عليه بالبكوية.. رحل الملك وفي الصباح اشترى جدي بالـ 500 جنيه عشرة أفدنة.. اشتراها كلها أفدنة حظ.

الجريدة الرسمية