رئيس التحرير
عصام كامل

النيل وأزمة إدارة الأزمة

سنوات عشر مضت من الدوران فى حلقة مفرغة من التفاوض الغريب والمدهش والعقيم، كان على إثرها استفاقة الخاصة كما لو كانوا ضمن العامة، والصراخ بصوت مرتفع أمام المحافل الدولية دون جدوى.

الناس فى بلادى لم يكونوا وسط الحدث الأهم تاريخيا فى حياة البلاد؛ لأن المفاوض المصرى أغفل -عن عمد- الظهير الشعبى فى قضية مصيرية قد تئول إلى حرب سيدفع هو ثمنها أيا كانت النتائج.

بدا المشهد طوال سنوات عشر غامضا وضبابيا أمام الرأى العام كما لو كانت القضية ليست قضية وجوده وبقائه، فلم يكن فى يوم من أيام التفاوض على علم بما يجرى، وكانت الصدمة الكبرى عندما تابع المصريون البسطاء جلسة مجلس الأمن التى ناقشت الموضوع، وظهر جليا أن القوى الدولية، قيدت أيادى مصر بقيد التفاوض الهش غير المشروط دون التزام بجدول زمنى.

استفاق المصريون على أدوار قامت بها قوى دولية كنا -حسبما يصدر لنا- نظنها تقف إلى جانب الحق المصرى والصبر المصرى والوجود المصرى.. فجأة وجدنا من توهمنا أنهم أصدقاء -حسب التصور الرسمى- على غير ذلك تماما، ولم يكن التلويح بالحرب فى تصريحات علنية واحدا من أدوات تجهيز الجبهة الشعبية، ورغم ما تلا تلك التصريحات من تداول اجتماعى لاختيار مصر طريقا آخر غير التفاوض، إلا أن التراجع جعل من تلك التصريحات كما لو كانت مجرد استهلاك محلى لم يدم طويلا.

ماذا تريد الحكومة من الشعب فى قضية تهم الوجود المصرى؟ لا أحد يعلم على وجه اليقين.. هل مطلوب من الشعب أن يجهز نفسه لما هو أصعب؟ هل مطلوب من الناس أن تعيش أجواء الأزمة بكل تفاصيلها؟ هل مطلوب من الجماهير أن تستعد لما هو قادم على وقع طبول الحرب؟لا أحد يعلم على وجه التحديد ما هو المطلوب شعبيا لدعم الموقف المصرى؟ لا شك أن الشعب يثق فى جيشه ويثق فى قيادته، ولا شك أيضا أن هذا الشعب أثبت تاريخيا أنه الأقوى عند الأزمات، والذى لا شك فيه قبل هذا وذاك أن كل شعب لابد أن تقدم له ما يغريه على البقاء مستعدا.

هل استعدت الحكومة لجميع السيناريوهات؟ وهل تتصور الحكومة أنها بشأن مشروع يمكنها تنفيذه دون ظهير شعبى قادر على تحمل الكلفة (كلفة القرار وتبعاته)؟!

ظنى أن إدارة أزمة النيل على هذا النحو من التغييب الشعبى والنخبوى هو عين الأزمة، فلكل قرار ثمن، ولا يدفع الثمن إلا شعب قادر على دفعه، ومظاهر القدرة لا بد وأن تبدأ بالوعى بما نحن مقدمون عليه، وليس بالإدارة المنفردة لملف اجتماعى وسياسى واقتصادى وحياتى، الناس بعد هزيمة يونيو كانوا هم وقود الإرادة.. هم من رفضوا الهزيمة، وهم من قرروا منح الثقة لقواتهم المسلحة والإيمان بقدراتها، ومن ثَم دعمها ودفع الكلفة أيا كان حجمها.

ودفع الشعب المصرى راضيا غير غاضب، دفع الدم والمال، وعاش أصعب لحظات التاريخ دون أن يفقد إرادته وقدرته على العطاء، دفع الشعب ثمن معركة كان هو فى قلبها ويعلم أدق تفاصيلها.قبل يونيو كان الشعب يعيش وعيا مزيفا ومضللا وغير واقعى، فكانت الهزيمة، وفى أكتوبر كان الشعب فى مقدمة طوابير المقاتلين، عاش ظروفا صعبة لتوفير نفقات التسليح، وارتضى بأقل القليل ليوفر الكثير لجيشه، فكان نصر أكتوبر العظيم.

لم تكن حرب أكتوبر جيشا ضد جيش، بل كانت إرادة فى مواجهة إرادة، كانت شعبا عظيما فى مواجهة عصابة، كان وعيا حقيقيا دون تزييف أو تضليل. ثمار النصر تجنيها الشعوب لأنها من دفعت الثمن، وأى معارك يغيب فيها الشعب لا يمكن ضمان نتائجها رغم أنه هو وحده أيضا من سيدفع الثمن دون غيره.
 

الجريدة الرسمية