رئيس التحرير
عصام كامل

يد تبني مصر وفنون تهدم!

فى الستينات كان الشعار "يد تبنى ويد تحمل السلاح".. وكنا جميعا معه بلا استثناء.. كان العدو الواضح هو إسرائيل ومن ورائها. الآن تطور الشعار وتطورت صورة العدو.. ليصبح الشعار "يد تبنى ويد تحمل السلاح وأياد تحاول الهدم".. العدو لم يعد واحدا كما كان بل أضيف له إرهاب وجماعات ومخططات لا تريد احتلال جزء من الأرض كما كان فى الماضى ولكن هدم الدولة المصرية بكاملها..


 لم يقف الأمر عند المواجهة المسلحة مع عدو واضح والتى تكون رغم ضراوتها واضحة وحتمية الفوز لصاحب الحق، لكن تحولت إلى حروب خفية، تعدد فيها الأعداء لكن الهدف واحد هو هدم الدولة بكيانها عن طريق هدم مفرداتها.

 وأعتقد أن الفن يأتى فى مقدمة هذه المخططات، فبناء ألف مصنع أسهل بكثير من بناء إنسان واحد. وحتى لا يكون الكلام معمما ومجردا تعالوا نتابع ما حدث على الساحة الفنية طوال السنوات والشهور الماضية، ففى مجال الغناء والموسيقى، نظرة واحدة وسريعة إلى الأغنيات والموسيقى التى تحقق رواجا جماهيريا على الساحة بما يسمى أغانى المهرجانات يكشف المخطط وهو ضرب وتدمير الوجدان المصرى حتى يتحول الإنسان بلا روح أو عقل فيتم اغتياله ويسهل بعد ذلك هدم دولته، ووصل الأمر بنا إلى الترحم على أغانى كنا نرفضها فى وقت ما مثل أغانى أحمد عدوية وحسن الأسمر وكتكوت الأمير، ونعتبرها الآن قمة فى الجمال إذا ما قورنت بجبال القبح هذه!

 الفن الراقى والرديء
 وبعيدا عن الهدف الذى قد يختلف عليه البعض فى زمن أصبح الاختلاف فيه على الثوابت سمة وظاهرة.. فعلى مستوى بناء وجوهر وشكل الأغنية غابت القيمة والصورة والمفردة الشاعرة والموسيقى والإيقاع الداخلى.. يعنى كلام نثرى يخلو من كل ما هو شعرى وجمالى وأساسى فى عالم الشعر.. تعالوا إلى المحتوى نجده خاليا من أي قيمة جمالية وعلى العكس يحتشد بكل ما هو قبيح وسوقى وبذئ ليس من المعيار الجمالى فحسب ولكن الأخلاقى والمجتمعى والقيمى.. الهمس فى الفن أصبح عندهم ضجيجا والحياء أصبج بجاحة والرقة تحولت إلى عنف وقسوة ولوعة الحب صارت كرها والنظرة أصبحت جنسا والإيحاء لم يتحول إلى تصريح ولكن إلى بجاحة ووقاحة ودعوة إلى الرذيلة.. فهل هذا هو الفن الذى يبنى ويشيد الوجدان!

 إذهبوا إلى أي فرح أو حفل الآن لتكتشفوا الحال الذى وصلنا إليه.. بدلا من رقة شادية ونجاة وفيروز وعبد الحليم أصبحت أغانى لا تفهم منها أي شيء من سرعة إيقاعها وشلالات كلامها وصخب موسيقاها التى تتضاءل بجوارها صخب ودوشه ال "دى. جى" ويتمايل معها الشباب!

 هل اختلف وتبدل زماننا؟
 يجوز
 للقبح الآن معايير، لكن أي معايير جمالية لهذا الفن وأى مقصد وهدف يسعى إليه؟ نعم للقبح الآن معايير مثل الجمال.. والفارق أن الجمال والقبح موجودين على مر العصور لكن الغلبة كانت للجمال والفطرة السوية. نعم، الفن الردئ والجديد موجودان فى كل زمان ومكان.. لكن الغلبة كانت للجيد.. نعم، الأصوات الضعيفة والقبيحة كانت موجودة لكن الفائز والبقاء كان للأجمل.. لم تكن هناك مشكلة.. فالعملة الجيدة تطرد الرديئة.

 وكمبدع لا يمكن أن أقف ضد أي عمل فنى أو فكرى حتى لو كان مدعى إلا بمثله، خاصة مع تطور عالم الاتصالات والتكنولوجيا، فما يمكن أن تغلق أمامه الباب فسوف "ينط" عليك من الإنترنت.

 لذلك الحل هو إنتاج أعمال منافسة جيدة.. يعنى معالجة القبح بالجمال، اللاشعرى بالشعر، الدوشة بالموسيقى، أنكر الأصوات بالأجمل.. وهكذا ونحن نملك الكثير من هذه المقومات البشرية والمادية.

 لكن هذا فى الظروف العادية لكن فى هذه الظروف الاستثنائية التى نحياها الآن وبلغة أكثر تحديدا هل ينفع ما يتم فى زمن السلم والهدوء أن يتم فى زمن الحرب والطوارئ والظروف الاستثنائية، أعتقد أن الحلول وصور المواجهة لا بد أن تكون أيضا استثنائية، وقد تصل إلى ما يفرض فى أوقات الحرب والطوارئ.

خطر الدراما التليفزيونية
وتعالوا ننظر إلى الدراما التليفزيونية لنكمل بعض جوانب الصورة ولنتخذ مثالا فيما قدم فى رمضان الماضى.. أحد المسلسلات لم استطع أن أجلس أكثر من 10 دقائق بالعافية وقمت فارا حين وجدتنى فى مستنقع قذر من الألفاظ والعبارات البذيئة، يظن صانعوه أنهم بذلك يقدمون البيئة الشعبية أو حتى العشوائيات، وهى منهم براء أو على الأقل بنسبة أكثر من 90 %، بالإضافة أن قبح الواقع يعالجه جمال الفن وهذا دوره وهدفه، وليس العكس كما يحدث الآن..

  أن قبح الشاشة ينتقل إلى إعادة إنتاجه فى الحياة ليكون واقعا كريها وقبيحا ومدمرا، وهذا عكس دور الفن الذى يرتقى بالمشاعر وليس تحويلها إلى كراهية وعنف وحروب كلامية تنتهى بشلالات الدم والبلطجة.

 ومن العنف اللفظى إلى العنف الجسدى حدث ولا حرج فى هذا المسلسل أو ذاك.. من قيم الجدعنة الحقيقية إلى عالم البلطجة.. فتونة الماضى كانت تحمل فى طياتها قيم الرجولة بما تعنى من معانى أصيلة تحولت الآن فى ورش الدراما إلى ألفاظ يندى لها الجبين وتخجل أنت وأسرتك أن تشاهدوها معا.. لكن الأخطر الآن ويدق مليون ناقوس للخطر أننا أصبحنا أكثر حياء من أولادنا بسبب هذه الأعمال والأغانى، أولادنا بهذه الأعمال يعرفون أكثر منا من قاموس هذه الألفاظ، والأخطر أنها أصبحت مفردات قاموسهم اليومى ونحن أسرى فى عالم أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب!

 وبدلا من قيم الوفاء التى يغرسها الفن انتشرت فى الدراما كل أشكال الخيانة الزوجية للدرجة التى ترسخ فى الوجدان أن كل الزوجات خائنات وبالطبع كل الأزواج سبقوهم إلى بئر الخيانة، صحيح قد يغفر المجتمع الذكورى خيانة الرجل لكن المجتمع كله لا يرضى ولا يغفر طبعا الخيانة النسائية فما بالك وأن معظم ورش كتابة الدراما تفعل ذلك وترسخه بدم بارد وتقدم المجتمع المصرى كله بهذه الصورة.

 والأخطر من ذلك أن الدراما هذه تبرر وتخطط وتعلم وتقدم ملايين الأشكال لهذه الخيانات.. يعنى البرئ يتحول إلى محترف بعد هذه الدروس الدرامية !!وظهر أثر ذلك جليا الآن فى أسلوب التعامل بين أفراد الأسرة المصرية وأدعو علماء الاجتماع لرصد هذه الظاهرة وهى أثر الدراما والغناء الآن على سلوك الأسرة المصرية!

والحل كما أرى إعادة الروح إلى الشركات الحكومية وشبه الحكومية والمنتجين المحترمين فى مدينة الإنتاج الإعلامي والتليفزيون.. الخ إلى سوق الإنتاج وتولى قيادة هذه الشركات قامات فكرية وثقافية مبدعة وليست اقتصادية أو تقنية فقط، فالصراع فكرى فى الأساس، يديره العقل والوجدان وتنفذه التقنية وينتجه الاقتصاد وليس العكس! بدليل أن فترة الستينات أسند الإنتاج السينمائى على سبيل المثال إلى قامات فكرية وثقافية كبرى فى مقدمتها نجيب محفوظ رئيسًا لمؤسسة السينما ويحيى حقى مديرًا لمؤسسة دعم السينما.. ألخ.. وبعقولهم تم إنتاج روائع وكلاسيكيات السينما المصرية التى ساهمت فى بناء الوجدان المصرى لتكون جنبا إلى جنب مع بناء السد العالى ومجمع الحديد والصلب ونجع حمادى.

 قنابل وصواريخ
والسؤال هل نترك قنابل وصواريخ هؤلاء -لم تصبح معاول هدم- تنتج بين ضلوعنا وبأموالنا وتوجه منصات إطلاقها إلى قلوبنا وعقولنا والتى أعتقد أنها أخطر كثيرا من صواريخ عدو الستينات والمستمر معنا مع أعداء اليوم الجدد أو الذين ينفذون مخططه بالوكالة -أقصد جحافل الإرهاب والتخلف!

فلا يعقل أن تكون هناك الآن يد تبنى نهضة معمارية وإنشائية تحاول نقل مصر من عشوائيات وضيق وتخلف نحو 40 عاما.. ونترك أيادي أخرى لا تحاول هدم ما يتم إنجازه على أرض الواقع فحسب، بل إعادتنا إلى عصور الأسرة البدائية الهمجية، وتقدمنا لقمة سائغة لاعدائنا، بل وتنقلنا إلى عالم الأسوأ شكلا وموضوعا حيث القبح والبلطجة والاإنسانية فى بلد أهم ما يميزه أنه بلد حضارى بكل معانى الكلمة.

 فلا يعقل أن نترك المجال الآن وطوال السنوات الماضية لحفنة ممن ينفذون بقصد أو بدون قصد، بعلم أو بجهل مخططات أعداء هذا الوطن بما يقدموه ويسموه فنا ونسميه نحن صوارخ وقنابل لم ينجح فى إطلاقها علينا الأعداء وفعلوها هم فينا وبدم بارد.. وللحديث بقية!

 yousrielsaid@yahoo. com.




الجريدة الرسمية