رئيس التحرير
عصام كامل

كيف تولد الموهبة من رحم المعاناة.. «جبران خليل جبران» طفولة فقيرة وشباب بائس

جبران خليل جبران
جبران خليل جبران
"من المعاناة بزغت أقوى الأرواح .. فأعظم الشخصيات معلّمة بندبات" بتلك الكلمات جسد الشاعر والرسام والفيلسوف اللبناني الكبير جبران خليل جبران مسيرته.


وامتلأت مسيرته بالهجران والفقر والوحدة العميقة فلا أصدقاء ولا أحباء ولا أبناء.. وبرغم ذلك تميز الراحل جبران خليل جبران بتعدد المواهب حيث ألف الشعر الغنائي وكتب النثر، وكان أيضا رسام من طراز رفيع.

فغنت له المطربة اللبنانية الشهيرة فيروز العديد من القصائد والأغاني مثل "اعطني الناي وغني"، و"المحبة"، و"سفينتي بانتظاري".

إذن كيف تولد الموهبة من رحم المعاناة؟ وكيف استطاع جبران خليل جبران تحول طفولته الفقيرة وشبابه البائس إلي فن عظيم وإبداع فريد دام قرابة الـ120 عاماً؟

بدايات جبران خليل جبران
وخليل جبران تم تعميده باسم جبران خليل جبران. وولد في السادس من يناير عام 1883 في قرية قديمة في بشري التابعة لمتصرفية جبل لبنان الواقعة في وادي قاديشا شمال لبنان لعائلة مسيحية مارونية، في تلك الفترة كانت تلك المنطقة شبه مستقلة عن الإمبراطورية العثمانية.

كان والده سعد يوسف جبران يعمل في البداية كبائع في صيدلية عمّه، لكن خلال فترة طويلة كانت الديون والخطايا تتراكم عليه بسبب لعبه القمار حتى خسر عمله في النهاية، بعدها تم تعيينه زعيمًا من قبل المدير البلدي راجي بك وقد كان قاسياً وصاحب خلق سيء.


أما بالنسبة إلى أمه كاميلا جبران كانت قد تزوجت مرتين قبل أن تتزوج من والد جبران ليكون زوجها الثالث، وكان لديها ولد من زوجها الأول وهو بيتر(بطرس) أكبر من خليل جبران بست سنوات كان يعمل من أجل الأسرة بتفاني كبير.

بعيدًا عن أخيه بيتر كان لجبران أختين وهما ماريانا وسلطانة حيث كانتا تعيشان في قرية منعزلة في واي قاديشا، وحياتهما تخلو من الراحة أو الرفاهية الدنيوية. لم يذهب جبران إلى المدرسة لكنه كان يتعلم العربية والكتاب المقدس من القس الذي كان يزور منزلهم.

في عام 1891 تم إلقاء القبض على والد جبران وسجنه بتهمة الفساد المالي وتمت مصادرة جميع ممتلكاته، أما عائلته التي بقيت مشردة عاشت فترة من الوقت في منزل أحد اقاربهم، قبل قرار كاميلا بأن تلحق بأخيها إلى الولايات المتحدة.

وبسبب تصرفات الوالد غير المسؤولة ابتعدت العائلة عنه وخصوصًا بيتر، ولذلك فإن العائلة لم تغير رأيها في الرحيل حتى بعد أن خرج الوالد من السجن عام 1894، وتركت العائلة الأب وحيدًا في لبنان وهاجرت إلى الولايات المتحدة في 25 يونيو 1895.

نابغة بالفطرة
انضمت العائلة إلى بعض الأقارب في الولايات المتحدة لتشاركهم منزلهم الواقع جنوب بوسطن ولاية ماساتشوستس، وبينما أخذ بيتر على عاتقه تحمل أعباء الأسرة، بدأت الأم ببيع أربطة الأحذية وبعض ملابس الكتان متنقلة من منزل إلى آخر في محاولة لزيادة دخل الأسرة، فيما بعد تمكنت من فتح متجر لبيع الأغذية المجففة، وفي الثانية عشرة من عمره دخل جبران مدرسة كوينزي في بوسطن في 30 سبتمبر 1895ِ وحتى ذلك الوقت كان يعرف بجبران خليل جبران لكن عند تسجيله في المدرسة اختصر إلى خليل جبران.

في المدرسة وضع جبران في صف خاص بـ"المهاجرين" حيث تم التركيز على تعليمهم اللغة الإنجليزية، وفي نفس الوقت بدأ جبران بارتياد دينيسون هاوس سوشيال سنتر Denison House Social Center، وهو مدرسة للفنون تقع بالقرب من مكان سكنه، لاحظ معلموه مهاراته الفنية وتم تقديم جبران إلى الناشر والمصور الفوتوغرافي "فريد هولاند داي"، مما أفضى إلى اكتشاف قابليته لتلقي الفن والأدب، وبدأ داي بتسميته "نابغة بالفطرة".


تحت إشراف داي بدأ جبران بتزيين الكتب ورسم البورتريه ، و بدأ داي بتقديم جبران إلى أصدقائه في عام 1898 تم استخدام إحدى رسماته كغلاف لأحد الكتب، وعندما لاحظت والدته أنه بدأ ينجذب إلى الثقافة الغربية قررت أمه وأخاه إرساله إلى لبنان حيث سيكون بإمكانه أن يتعلم عن تراثه الشرقي أولا، ووفقًا لذلك عاد جبران إلى بيروت حيث حصل على قبول مدرسة الحكمة، وهي مدرسة ابتدائية مارونية ومعهد للعلوم العالية، بعد إتمام تعليمه في بيروت عاد جبران إلى بوسطن في 10 مايو 1902، بعدها توفيت أخته الأصغر سلطانة بمرض السل عام 1903 توفي أخوه بيتر بنفس المرض وأمه بسبب السرطان، وبدعم من أخته ماريانا التي تعمل في الخياطة تابع جبران أعماله الفنية.

إنجازات جبران خليل جبران
وفي مايو 1904 أقام معرضه الأول في استوديو معلمه داي في بوسطن، وهنا التقى جبران بماري إليزابيث هاسكيل  وهي المعروفة بمساعدتها لعدد من الناس الموهوبين، كانت تملك مدرسة ميس هاسكيل للبنات، وقد ساعدته ماليا واستخدمت نفوذها ليطور مهنته، و بالرغم من أنها كانت تكبره بعشرة أعوام إلا أنهما بقيا صديقين حتى وفاته.

وفي شتاء عام 1904 احترق معرض داي ودمرت أوراق جبران بالكامل، بعد ذلك أخذ جبران يكتب باللغة العربية لصالح (صحيفة المهاجر) حيث كان يحصل على دولارين مقابل كل مقالة، وحملت أولى مقالاته عنوان رؤيا.

وعام 1905 نشر جبران أول أعماله "نفثة في فن الموسيقا" وقد كانت تميل إلى العاطفية والانفعالية كانت عملاً غير ناضج عن الموسيقا، وفي الوقت نفسه بدأ يدرس الإنجليزية مع هاسكيل.


وفي عام 1906 نشر عمله الثاني "عرائس المروج" حيث احتوى هذا الكتاب على ثلاثة قصص قصيرة تمت ترجمتها فيما بعد إلى الإنكليزية تحت عدة عناوين، وفي نفس العام بدأ عمودًا خاصًّا به في الصحيفة التي كان يكتب لها تحت عنوان دمعة وابتسامة. 

الأرواح المتمردة
ونشر كتابه الثالث "الأرواح المتمردة" عام 1908 والذي تناول مجموعة من القضايا الاجتماعية مثل تحرر المرأة و التحرر من النظام الإقطاعي الذي كان سائداً في لبنان، وبسبب استياء رجال الدين من محتويات الكتاب تم تهديده بأنه سوف يطرد من الكنيسة كما انتقدت الحكومة الكتاب ومحتوياته. 

في نفس العام تلقى جبران تمويلاً من هاسكيل ليسافر إلى باريس ويزيد مهاراته في الرسم الزيتي وأقلام الباستيل، وفي تلك الفترة كان متأثرًا جدًا بالرمزية كما دعي للمشاركة في تقديم الرسومات للعديد من العروض المهمة، وتم قبول لوحته "خريف" من قبل الجمعية الوطنية الفرنسية للفنون الجميلة لتشارك في معرضها. 

وفي تلك الفترة أثناء تواجده في باريس قام برسم سلسلة من الصور الشخصية "بورتريه" لعدد من الممثلين العظماء أمثال أغسطس رودين، كما التقى مجموعة من المشاهير، على الرغم من كونه لم ينهي فصوله الدراسية قام بجولة في انكلترا قبل عودته إلى الولايات المتحدة في أواخر عام 1910.

وانتقل جبران إلى نيويورك عام 1911 حيث عاش هناك ما تبقى من حياته القصيرة، بعدها بدأ بالعمل على كتابه الجديد " الأجنحة المتكسرة" والذي يتناول تحرر المرأة، ومن المعتقد أن بطل الرواية هو الكاتب نفسه.

وفي عام 1911 أسس جبران الرابطة القلمية وهي جمعية تعنى بتشجيع الكتاب و الآداب العربية، لم تساعد هذه الجمعية الكتاب العرب فقط وإنما ساعدت جبران نفسه بشكل كبير من خلال صلاتها وجماهيريتها.

بعد إصدار كتابه الأجنحة المتكسرة بدأت شهرة جبران بالانتشار، عندها أصبح واحداً من أشهر أدباء وشعراء المهجر كما بدأ يدعى بالإصلاحي.

وفي عام 1913 قام بتأسيس معرض كبير له وقدّم في نفس العام واحدة من أهم أعماله الفنية وهي "ذا هيرميتيج" وفي تلك الفترة تعززت مكانته ككاتب أولًا ورسام ثانيًا.

وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى وجّه طلبه إلى المسلمين والمسيحيين اللبنانيين بأن يوحدوا جهودهم في محاربة العثمانيين، وكان حزينًا كونه لن يتمكن من المشاركة في هذا النضال، وبعد أن أصبح الجوع يتسبب بوفاة أكثر من 100 ألف إنسان في بيروت وجبل لبنان بدأ جبران بجمع المال لتأمين المساعدة للحشود الجائعة، في الوقت نفسه كانت شعبيته تزداد في نيويورك، في عام 1916 أصبح أول مهاجر ينضم إلى البورد الأدبي الخاص بمجلة The Seven Arts Magazine.

وحتى عام 1920 تابع جبران الكتابة باللغتين العربية والإنكليزية ومن أشهر أعماله العربية، قصيدة المواكب عام 1919 والعواصف 1920 بالإضافة إلى البدائع والطرائف 1923 وفي نفس العام أصدر كتابه "النبي" وعند إصدار هذا الكتاب كان جبران قد وصل إلى قمة مهنته ككاتب وأصبح شخصية مشهورة.

رحيل هادئ

في تلك الفترة بدأت صحته تسوء، وحتى ذلك الوقت استمر في كتابة ونشر كل من "رمل وزبد" 1926 ومملكة الخيال وكلمات جبران(أقوال جبران) 1927، وفي نفس الوقت كان يعمل على كتابه "يسوع ابن الإنسان" حيث ضمنها كلماته وآثاره التي سجلها من عاشوا في زمنه ونشر هذا العمل عام 1928، بعدها نشر كتاباً واحداً وهو "آلهة الأرض" عام 1931 أثناء حياته، والباقي تم نشره بعد وفاته.

و في 10 أبريل 1931 وهو في الثامنة والأربعين توفي بسبب التليف الكبدي المزمن والسل في نيويورك.

وكانت آخر وصية أوصى بها جبران خليل جبران بكتابة تلك العبارة على قبره في لبنان "أنا حي مثلك وأنا واقف الآن إلى جانبك فاغمض عينيك والتفت تراني أمامك".
الجريدة الرسمية