رئيس التحرير
عصام كامل

حكايات الست ماري (1)

قالت لي جارتي ماري، وهي أرملة أرمينية يزيد عمرها على السبعين عاما، إنها لم تعد تطبخ، منذ هجرة ولديها إلى أستراليا في تسعينات القرن الماضي، وذلك رغم شغفها بالطبخ كأحد أنواع الفنون.


تؤمن هذه السيدة، التي لم يخفي تقدم عمرها جمالا أصيلا تغلفه بدانة مليحة، بأن «العين هي التي تشبع وليس المعدة»، لهذا فقد كانت تحرص على تزيين الأطباق التي تطهوها بشكل أبهر كل الذين تناولوا طعاما من يديها على امتداد عقودها الأولى.

سألتها عن السبب، فتبسمت بسخرية لا تخلو من الأدب، مشيرة إلى أنها ردت على سؤالي في بداية حديثها، فالطبخ فن، ولا يمكن للفنان أن يكتفي بالرسم مثلا أو الكتابة دون أن يعرض نتاج موهبته على جمهور متذوق، لذلك فمنذ هاجر ولديها ومن قبلهما زوجها الذي توفي وسط أصدقائه في حانة صغيرة بمنطقة وسط البلد، وهي تشتري الطعام جاهزا أو تكتفي بتناول المعلبات والأجبان.

 دهشة
أغلقت ماري بابها، وأكملت أنا صعود السلم إلى أن وصلت لغرفتي على سطوح واحدة من عمارات وسط البلد، وقبل أن أضع المفتاح في القفل الصدئ تذكرت أنني لم أحضر طعاما للعشاء، فنزلت مسرعا ثم توقفت أمام شقة ماري وطرقت الباب، وحين فتحت سألتها إذا كان لديها وقتا لتعرض بعضا من فنونها على واحد من متذوقي فن الطبخ، فبدت الدهشة على وجهها للحظات، ثم أدخلتني وغابت في المطبخ لنحو ربع ساعة ثم خرجت وفي يديها طبقا يشبه التبولة الشامية.. طبقا يشبه لوحات هنري ماتيس بألوانه المبهجة.

وبينما كنت أتناول الطعام بشهية من لم يذق زادا في يومه، كانت هي تضع يدها على خدها وهي تراقب ملامح وجهي وتكاد الفرحة تقفز من عينيها. إلتهمت كل ما كان في الطبق وقبل أن افتح فمي لأشكرها، تجمدت الدموع في عينيها، وسألتني بلهجة طفولية ممزوجة بالفرح: ماذا تحب أن تأكل غدا؟
الجريدة الرسمية