رئيس التحرير
عصام كامل

الحلقة (12) من رواية ثروت الخرباوي "زمكان"

ثروت الخرباوي
ثروت الخرباوي

تناولنا في الحلقة "11" من رواية "زمكان" سيطرة فكرة الموت على بطل الرواية الذى؛ كلما ابتعد عنه أحد الأشخاص، حيث يرى أن السفر له علاقة بالموت، فكلاهما يبعد من نحب عن ناظرنا، إلا أن الموت يغيبه تماما، في حين أنه في حال السفر نستطيع التواصل مع من نخب بالرسائل.

"مرت الأيام وتوارى أحمد شرشر في الذكريات، لم أعد أذكره كثيرا، وانشغلت بأحداث جديدة مدهشة حدثت في أنشاص، إذ عرفنا من الناظر الجديد الأستاذ فرحات أن الرئيس جمال عبد الناصر سيأتي لزيارة أنشاص ومعه بعض رؤساء أجانب، أخبرونا أننا سنتتدرب على أغاني معينة سننشدها وقت استقبال الضيوف، تحولت انشاص كلها إلى خلية نحل، كان الحدث مذهلا بالنسبة للصغار، ولكن يبدو أن الكبار كانوا قد تعودوا على تلك الزيارات إذ استقبل الملك فاروق عام 1946 في قصر انشاص كل الملوك العرب بمناسبة إنشاء جامعة الدول العربية، كانت زيارات الملوك هذه من القصص التي كان القدماء في أنشاص يحكونها للصغار، فكان عم "الشافعي" طباخ الملك يحكي لنا عن الولائم، وكان عم "الطوخي" مصور الملك يحكي لنا عن أهم الصور التي التقطها آنذاك، ولماذا يزين بها حوائط الاستديو الخاص به، كنا نستمع لهما بشغف رغم أننا كنا نعلم من أهالينا أن "الشافعي" لم يكن طباخا للملك بالمعنى المعروف، ولكنه كان صبيا من جملة مساعدي الطباخين، إلا أنه تميز في هذا الفن بعد ذلك وأصبح الطباخ الخاص لمنطقة الإصلاح الزراعي والمسئول عن إعداد الولائم للضيوف المهمين الذين يأتون كثيرا لزيارة مدير التفتيش، أما عم الطوخي فكان يصور العاملين في القصر وكان فنانا في التصوير ومبدعا فيه.
كان عم الشافعي مُكلفا أثناء زيارة الرؤساء الأجانب وعبد الناصر لأنشاص بإعداد وليمة ضخمة لهم، وكان عم الطوخي مكلفا من مدير التفتيش بتصوير الأحداث وطوابير الاستقبال، وكنا قد حفظنا جميعا الأناشيد الحماسية، واصطففنا منذ الصباح الباكر في مدخل أنشاص، وأخذنا نغني معا في بروفات ميدانية " تيتو، خروشوف ونهرو، أحسن رؤساء في الدنيا، ومعاهم عبد الناصر حررنا من بريطانيا ".
كانت اختيار مدير المنطقة وكبار المسئولين في أنشاص قد وقع على أختي مجيدة وصديقتها منى عباس كي يقدما للرؤساء باقات الورد، وكنت أقف في أحد الصفوف الخلفية إلا أنني كنت أشرأب بعنقي وأستطيل بهامتي حتى أرى المشهد، كنت أتوق شوقا لرؤية مجيدة وهي تقدم الزهور، وكدت أفقد وعيي من فرط الذهول وأنا أرى طيف عبد الناصر وهو ينحني لمجيدة آخذا منها باقة الورد، ولكنني على حين غرة سمعت خلفي صوت خوار آتيا من بعيد، تغافلت عن الصوت برهة، فعاد الصوت من جديد، لم يكن الخوار عاديا ولكنه كان دالا على ألم ومعاناة، طبيعته تختلف عن الخوار الذي أعرفه، إذ كان خافتا لاهثا متقطع الأنفاس، شدني حب الاستطلاع، أجننت أنا، أأترك هذا الاستقبال الذي لن يتكرر لأجري وراء صوت بقرة تخور ! ولكن هذا هو الذي حدث، انسللت من الطابور وتتبعت صوت البقرة، كان آتيا من حظيرة الإصلاح الزراعي الكبيرة التي تبيت فيها الأبقار والخرفان وباقي الدواب، وكانت فيما مضى اسطبلا عملاقا لخيول الملك، اقتربت من الحظيرة فاقترب صوت الخوار إلا أنه كان أكثر تقطعا وخفوتا، شيئ ما أثار الرهبة في نفسي قبل أن أرى المنظر، وحين دلفت إلى الحظيرة وجدت الدكتور محسن الطبيب البيطري للمنطقة ومعه مجموعة من عمال الإصلاح الزراعي وهم يحيطون ببقرة نائمة على جنبها على الأرض، تنتابها ارتعاشات تشنجية، كان أحدهم يجلس عند رأسها ويربت عليه، وآخر يجلس القرفصاء عند النصف الأول من بطن البقرة وهو منهمك في تدليكه، أخذت أمعن النظر وأنا ذاهل عن الدنيا كلها، كان الدكتور محسن يقول لأحد العاملين : هات الحفـَّار.
فأعطاه أحدهم آلة غريبة تشبه السكين، فقام الطبيب بشق جزء من بطن البقرة من الناحية اليسرى الخلفية، والبقرة مستسلمة تماما لمصيرها، ثم قال الطبيب : هات المشرط، فأعطاه نفس الرجل مشرطا، فأخذ الطبيب يوسع من الفتحة التي شقها في بطن البقرة، ثم قام بإدخال ساعده كله في بطن البقرة، وأخذ يدير ساعده ويحركه في بطنها وكأنه يبحث عن شيئ، كنت قد انقطعت تماما عن الدنيا التي في الخارج وأصبحت دنياي كلها منحصرة في هذا المكان، رآني بعض العمال وأنا أبحلق في المشهد إلا أن أحدهم لم يعلق ولم يوجه لي حديثا وكأنه من الطبيعي أن أكون بينهم، قال العامل الذي كان يربت على رأس البقرة : البقرة ماتت يا دكتور، لم يعقب الطبيب ولكنه صاح : أمسكت رجلها، أول ما تطلع حد ييجي يشد معي.
ومن بطن البقرة الميتة أخرج الطبيب قدما لبقرة صغيرة، فاشترك معه أحد العمال، وأخذا يجذبان القدم، والعمال يصيحون :" هيلا هيلا، صل عـ النبي " ثم خرجت بقرة صغيرة كاملة من بطن البقرة الكبيرة الميتة، ألقوها على الأرض، ثم حملها عاملان من قدميها الخلفيتين بحيث أصبح رأسها لأسفل، وأخذ الطبيب يضرب ضربات خفيفة على رأسها المضرجة بالدماء، وآخر يصب بعض الماء على هذا الرأس الذي لا تبدو عليه حياة، كرروا هذه العملية عدة مرات وألقوا البقرة الصغيرة على الأرض، وأخيرا حركت قدميها وأخرجت من أنفها صفيرا دل على أن الهواء أخذ يتدفق إلى رئتيها، فصاح العمال : الله أكبر الله أكبر، وأخذوا يحتضنون بعضهم فرحا.
وهنا جلس الطبيب على الأرض وتنفس الصعداء وقد امتلأت ملابسه بالدماء التي تناثرت من البقرة الكبيرة، نظر الطبيب نظرة أسى للبقرة الميتة وسمعته وهو يقول بصوت خافت : سبحان الله " يُخرج الحي من الميت ".
خرجت مسرعا من المكان وأنا أجري ما وسعني الجهد وكأنني أهرب من شيئ، ثم أتوقف فجأة وكأنني أنتظر شيئا، كنت حائرا مضطربا مرتبكا، كيف يجتمع الموت والحياة في آن واحد، إذن الموت والحياة شيئ واحد، إنهما يلتقيان، بقرة جاءت إلى الدنيا، وبقرة ذهبت إلى دنيا أخرى، ولكن أين كانت البقرة قبل أن تولد؟ 
• كانت في بطن أمها.
• وأين كانت قبل أن تدخل لبطن أمها؟
• كانت عدما، لاشيئ.
• إذن هل الحياة تخرج من العدم؟
• أبونا آدم كان عدما قبل أن يخلقه الله، الدنيا كلها كانت عدما 
• إذا كان الله خلق الدنيا من العدم، فمن هو الذي خلق الله؟.
• أستغفر الله أستغفر الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هذه أشياء ينبغي ألا أفكر فيها أبدا.
تفلت عن يساري وكأنني كنت في كابوس وجريت إلى البيت استكين تحت شجرة المانجو، وتحت الشجرة رأيت نبتة صغيرة تحاول شق طريقها للحياة فأحضرت نضحة ماء وألقيت بها على النبتة فاهتزت ففرحتْ، إلا أنني سرعان ما تجهمت، ما هذا الذي كنت أحدث به نفسي؟! هذا كفر، لقد أصبحت كافرا ويجب أن أقتل نفسي.
تعرضت في داخلي لتأنيب ضمير قاسي، ما هذا التخريف الذي دار في خاطري، عبيد الذي يعمل عندنا قال لي منذ أيام : لا تفكر في هذه الأشياء وإلا تكفر، وأنا فكرت، إذن أنا كفرت، والكافر يجب أن يقتل نفسه، هكذا قال الشيخ "علي الدين" خطيب المسجد الذي خلف الشيخ محمد عثمان، كان الشيخ علي الدين في خطبة الجمعة يتوعد الكفار بعذاب الله في نار جهنم خالدين فيها، ويقول إن الله لن يتوب عليهم إلا إذا قتلوا أنفسهم ثم قرأ آية من القرآن تقول : ( يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ) ولكنني لم أعبد العجل، أنا فقط فكرت في حياته وموته، هذا صحيح ولكنني فكرت في كلام آخر وسألت نفسي : من خلق الله، وهذا كفر، ويجب أن أتوب، ولكن التوبة كما قال الشيخ تكون بأن أقتل نفسي، لذلك سأقتل نفسي.
ظللت ساهرا الليل أفكر في طريقة أقتل بها نفسي دون أن أتألم، وفي اليوم التالي بعد أن عدت من المدرسة قلت لنفسي : فلأتمهل قليلا، ينبغي أن أموت وأنا شبعان، اتناول الغذاء أولا ثم أفكر، ماذا أفعل؟.
شبعت وتناولت الفاكهة ثم قلت لنفسي : أنام قليلا حتى أموت وأنا مستريح.
نمت فترة طويلة حتى أيقظتني أمي، فأخذت أتلكأ في القيام وكأنني أهرب من موعد ثقيل، ولكن اتهامي لنفسي بالكفر قطع عليَّ طريق التلكؤ، الآن لا بد مما ليس منه بد، إلى الموت، فلأتوجه لترعة الإسماعيلية وألقي بنفسي فيها.
وعلى حافة الترعة أخذت الأفكار تتداعى على رأسي، أنا كافر، أنا كافر، ليس كفرا هينا بل إنه أغبى كفر في العالم، جاءت لحظة المواجهة، سأموت الآن وأعرف حقيقة الموت، هناك أشياء لا يمكن أن نعرفها كاملة ونحن في الحياة الدنيا، هناك أشياء ستظل الأسئلة فيها معلقة لا تجد إجابة حتى نذهب إلى ربنا، يجب أن أذوق الموت بنفسي لأعرفه، هل يمكن أن نعرف طعم شيئ إلا إذا تذوقناه، والميت الذي مات لا يستطيع أن يحضر للحياة فيخبرنا عن الموت.
ولكن انتظر هناك معضلة كبرى، فالشيخ نفسه قال في خطبة أخرى إن من يقتل نفسه يموت كافرا !! فهل التوبة من الكفر تكون بالكفر؟! هذا أمر عجيب، يعني لو لم أقتل نفسي فإن الله لن يتوب عليَّ، ولو قتلت نفسي حتى يتوب الله عليَّ فإنني سأموت كافرا، وبذلك لن يتوب الله عليَّ، لقد أغلقت في وجهي جميع السكك، أنا في حيرة.
ابتعدت قليلا عن حافة الترعة وجلست أتأمل وأفكر بهدوء، من هو الكافر؟ ومن هو المشرك؟ 
• هل كل من لايؤمن بالله يصبح كافرا؟
• وهل كل من يعبد غير الله يصبح مشركا؟
• وهل كل من لا يؤمن بالإسلام يصبح كافرا؟
لم يجد ذهني الصغير إجابة عن هذه الأسئلة، ولكنني قفزت فجأة : أنا أؤمن بالله، وأؤمن بالإسلام وسيدنا محمد، أنا أصلي، وأصبحت أصوم، بل أنا أفعل كل التعليمات الدينية التي يقولها لنا الأستاذ محمود مدرس الدين، وأقرأ القرآن، وأحفظ كثيرا من الأحاديث، الشيخ عليّ الدين غلطان، وعبيد غلطان، ربنا لن يحاسبني على التفكير أبدا، ووجدتني فجأة أصيح : هييييه، وأخذت أجري وأنا أقول بنغمة واحدة، أنا مسلم، أنا مسلم، أنا مسلم، وبعض الفلاحين العائدين إلى بيوتهم ينظرون لي باستغراب، ونساؤهن ينظرن لي ويضحكن، وواحدة من الفلاحات تقول : ابن الباشمهندس اتجن، وعند الفيلا توقفت وفكرت : هل أنا مجنون، ياللمصيبة، أنا مجنون مثل الأستاذ أسعد المدرس في مدرسة الشهيد هاشم الرفاعي الثانوية.

الجريدة الرسمية