رئيس التحرير
عصام كامل

ميركل "ملكة الليل" وأسطورة الحكم

مهد توتر الأيام الفائتة بين الجيش والحزب الحاكم في "ميانمار"، بشأن تزوير الانتخابات إلى استيلاء الجيش على السلطة واعتقال الزعيمة المدنية أونغ سان سو تشي وكبار قيادات حزبها الحاكم فضلا عن الرئيس، ونقل جميع السلطات إلى القائد الأعلى للجيش وإعلان حالة الطوارئ لمدة عام، لكن حاكمة "ميانمار" سو تشي، لم تستسلم  وحثت أنصارها والشعب على "المقاومة وعدم قبول ما يحدث والاحتجاج على الانقلاب"، أي إنها تضع الشعب في مواجهة الجيش لكي تحتفظ بالنفوذ والسلطة، وهي التي أيدت وباركت خلال ولايتها مذابح مسلمي الروهينغا، الذين يشكلون أقلية في بلدها.


تولت سو تشي منصب مستشارة الدولة، الذي خُلق خصوصاً لها كي تتمكن من رئاسة الحكومة وتتقاسم السلطة مع الجيش، بعد أن كافحت النهج الديكتاتوري سنوات عدة، لكن توليها الحكم والسلطة جعلها تغض الطرف عن إبادة طائفة من شعبها، ففقدت كثيرا من التأييد، وهذا النهج يختلف قطعا مع نموذج أسطوري غير مسبوق لمستشارة ألمانيا  أنجيلا ميركل، التي تغادر الحكم العام الجاري إثر مسيرة حافلة بالإنجازات حققتها بصمت وحكمة دون تطبيل واحتفالات مثلما تغادر الحكم بهدوء ودون ضجة.

لن تترشح ميركل الهادئة وأسطورة الحكم والحكمة مرة أخرى لمنصب المستشارة الألمانية، بعدما انتخبها الألمان فقادت نحو 80 مليون من شعبها طوال 16 عاماً بكفاءة وتفانٍ وإخلاص، ولم يُسجل ضدها أيّة تجاوزات، ولم تضع أصدقائها أو أقاربها في مناصب مهمة بل كانت تضع الشخص المناسب في منصب يستحقه وينجز من خلاله، كما لم تغيرها السلطة والنفوذ وظلت كما كانت تخرج للتسوق وقضاء احتياجاتها منفردة بلا حراسة أو مواكب أو مظاهر تثير الشعب، ليقينها أن السلطة زائلة وستعود يوماً مواطنة ألمانية اجتهدت حتى نالت دكتوراة في الفيزياء والكيمياء، قبل أن تلتحق بالعمل السياسي وترتقي سريعا لتصبح أول مستشارة إمرأة في تاريخ ألمانيا وتقودها بإقتدار لمدة 16 عاماً وتنقذ الاتحاد الأوروبي من الانهيار، حتى أن باراك أوباما تحدث في مذكراته عن "وصفة ميركل للنجاح".

جعجعة إيرانية تنم عن المأزق

لم يكن طريق ميركل سهلا وممهدا، ورغم أنها تحرص على خصوصية حياتها، لكنها اعترفت بأنها لم تتوقع أن تبلغ قمة الهرم السياسي يوما، وانها عملت نادلة في حانة لزيادة دخلها بينما كانت تدرس الفيزياء في ألمانيا الشرقية الشيوعية، حيث نشأت وانتقلت فيما بعد للعيش بشقة في برلين، وهو ما جاء في كتاب أصدرته قبل سنوات الألمانية باتريشيا ليسنير كراوس عن السيرة الذاتية لأول مستشارة ألمانية بعنوان: "ميركل.. السلطة.. السياسة"..

وقالت إن "أول مستشارة في تاريخ ألمانيا كانت الأولى على مدرستها وترغب في أن تصبح معلمة، لكن الحلم تبدد بعدما رفضت الحكومة الشيوعية التي تتدخل في كل شيء لأن والدها كان قِسّا لوثريّا مستهدفا بالمراقبة من جهاز استخبارات ألمانيا الشرقية، وكطالبة متفوقة، تعلّمت ميركل في وقت مبكّر ألا تُسلِّط الأضواء على نفسها مخافة أن تُعرِّض نفسها أو عائلتها لمواقف غير مستحبة، وانها عاشت طفولة سعيدة مع أخيها ماركوس وأختها إيرين، واختارت دراسة الفيزياء والكيمياء لأن حكومة ألمانيا الشرقية الشيوعية، كانت تتدخل حينذاك في كل شيء باستثناء قوانين الطبيعة".

درست ميركل الفيزياء والكيمياء في جامعة ليبزيغ، ونالت الدكتوراة العام 1978، وعملت خبيرة في الكيمياء بالمعهد المركزي، التابع لكلية العلوم حتى عام 1990.

واحتفظت ميركل بلقب زوجها الأول، أولريخ ميركل، الذي انفصلت عنه العام 1981، وهي متزوجة حالياً جواكيم ساور، أستاذها في الجامعة، وتشترك معه في هواية الشعر الغنائي، كما أنها شغوفة بمباريات كرة القدم، وترى أن الكرة جديرة بتسويق صورة ألمانيا عالميا، فضلا عن مهارتها في الطبخ.

بدأت ميركل، العمل السياسي بالانضمام إلى حزب نهضة الديمقراطية العام 1989، بعد سقوط جدار برلين، الذي كان يفصل ألمانيا الغربية، التي ولدت فيها، وألمانيا الشرقية التي قضت فيها كل حياتها إلى أن توحدت البلاد. وترقت لتصبح ناطقة باسم آخر حكومة منتخبة ديمقراطياً بجمهورية ألمانيا الديمقراطية سابقاً تحت رئاسة لوثار دي مايزيير.

وفي العام 1990 بدأت مسيرتها السياسية إبان توحيد شطري ألمانيا إلى جانب المستشار السابق هيلموت كول، الذي تنبأ بنبوغها السياسي، وأسند إليها منصبين كبيرين في وزارة الشؤون النسائية ثم البيئة العام 1994.

"التاج" بين السخط والإعجاب

اجتهدت ميركل سياسيا وأخلصت لتصل إلى زعامة الحزب الديموقراطي المسيحي، مكان معلمها هيلموت كول العام 2000 رغم كونها بروتستانتية والحزب كاثوليكي وتصبح العام 2005 أول امرأة تتولى منصب المستشارة الألمانية، وأول مواطنة من ألمانيا الشرقية تقود البلاد بعد الوحدة، ثم أعيد انتخابها لفترة ثانية العام 2009، وفترة ثالثة في 2013 ورابعة العام 2018، وبالتزامن اختارتها مجلة "فوربس" الأميركية لعشر سنوات أقوى امرأة في العالم، إذ كانت منذ توليها منصب المستشارة الألمانية محط أنظار وسائل الإعلام العالمية، لشخصيتها المتسمة بالحكمة والتواضع ومنصبها الكبير في الساحة الدولية وعلاقاتها المتميزة مع قادة العالم.

تعهدت ميركل، بسرعة إعادة صوت ألمانيا الإتحادية القوي في إصلاحات الاتحاد الأوروبي ونجحت بإقتدار، ألغت التجنيد الإجباري، أنهت اعتماد ألمانيا على الطاقة النووية، وتحدت الجميع بالموافقة على استقبال مليون لاجئ سوري وعراقي، فأطلق اللاجئون عليها "ماما ميركل".

وهذا الأمر تحديدا أثر على شعبيتها لرفض الألمان وجود لاجئين بينهم، بينما تعاملت ميركل مع القضية بإنسانية، وجاءت جائحة "كورونا" لتعيد شعبية ميركل مجددا لنجاحها في إدارتها بإمتياز صحيا واقتصاديا، كما أنها حالت دون انهيار أوروبا خلال الأزمة المالية، وقادت القارّة العجوز خلال أزمة الهجرة التي أعقبت ذلك، لكنّها كانت أعلنت اعتزال العمل السياسي بانتهاء فترة الحكم الراهنة، حيث واجهت المد الشعبوي، وصعود اليمين المتطرف، وخلافات حكومية حول الرقمنة وميزانية الدفاع وأزمة المناخ واصرارها على تحمل أعباء مليون لاجئ سوري وعراقي.

لعل من أجمل الشهادات في حق ميركل، ما قاله السياسي توماس دي مزيير، الذي رافقها في الحزب 22 عاماً، يقول "صحيح انها امرأة حديدية لكنها تخفي وراء هذه القوة روح دعابة فريدة تتجنب إظهارها.. عرفتها في العام 1990 إبان الثورة الشبابية، وبعدها بسنوات عملت معها رئيسا لديوان المستشارية، ثم وزيرا للدفاع، ووزيرا للداخلية قبل مغادرتي الحكومة في 2017، وجدتها إنسانة شغوفة لدرجة كبيرة لكنها لا تحب إظهار مشاعرها، وتتصرف بمسؤولية كبيرة وهدوء بحكم منصبها الكبير، وتحرص تماماً على عدم إظهار روح الدعابة أمام الناس، وبحكم دراستها تتبع التفكير العلمي قبل إتخاذ أي قرار، كما تدرس شخصيات قادة الدول جيداً قبل أن تلتقيهم".

ويرى توماس أن ميركل، صاحبة الرحلة الاستثنائية في السياسة، هي كذلك في الحكم والقيادة وقد أطلقوا عليها لقب "ملكة الليل"، لأنها اعتادت مزاولة عملها وعقد الاجتماعات الرسمية حتى وقت متأخر من الليل دون أن تتأثر صحيا أو ذهنيا رغم أنها بدأت عملها منذ الصباح. وفي هذا يروج البعض على سبيل الدعابة أن بإمكان ميركل العمل ساعات طويلة وتخزين النوم مثلما يخزن البعير المياه.

تحرص ميركل التي تحظى باحترام العالم كله، على حضور حفلات الأوبرا والموسيقى الكلاسيكية وتخطط بعد نهاية ولايتها في خريف 2021، لرحلة سياحية طويلة رفقة زوجها حول العالم.

الجريدة الرسمية