رئيس التحرير
عصام كامل

ليست كالكلمات!


في إحدى القضايا المشهورة التي باتت مرجعية ويستشهد بها في القضاء الأمريكي، وتحديدا في السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، كانت إحدى المحاكم الفيدرالية تنظر في قضية مقدمة أمامها من إحدى الكنائس بحق ناشر إحدى المجلات الخليعة والمعروفة بصورها الجنسية الفاضحة، وكان دفاع الناشر هو أنه يمارس حقه في حرية الرأي وحرية الكلمة وحرية التعبير، بينما كان هجوم الكنيسة وادعاؤها عليه يستند إلى مفهوم «الإباحية»، فأجاب القاضي: «لا أستطيع أن أفعل ذلك، ولكن أعرفها حين أراها»، وتحولت هذه المقولة إلى حكمة ومثل يستخدم في شرح مواقف مختلفة.


تذكرت هذه الواقعة وأنا أسترجع الشعارات الكثيرة التي رفعت خلال ثورات الربيع العربي، وهي جميعها شعارات مهمة جدا وبالغة الدلالة، فمن الذي يستطيع الجدل في حق الشعوب في أن تنال «حرية، كرامة، أمان، عِيش، عدالة»، وغير ذلك من الكلمات ذات المعنى البالغ الدلالة والأهمية بلا شك؟ ولكن هذا المشهد يتكرر مجددا في ذهني وكأنني رأيت هذا «الفيلم» من قبل، فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ارتفعت شعارات وكلمات يجري ترديدها بشكل دوري وأقرب إلى الهستيري..

كلمات مثل «الوسطية، التسامح، الاعتدال، التوافق، السوية، القبول، الانفتاح»، وطبعا استمرت هذه الكلمات في التردد على الألسنة نفسها لمن كانوا من أدوات التشدد والتطرف والتنطع والانغلاق والرفض، وبالتالي لم تكن النتائج مقنعة، وبقيت حتما «زينة» و«ماكياج» ومجرد «تزويق» لواجهة المحل، بينما بقيت البضاعة بالداخل كما هي لم تتبدل.

واليوم كل الخوف من أن الكلمات المهمة التي رفعت بوصفها شعارات وبالتالي مطالب محقة جدا من أفواه ووجدان الشعوب العربية المسحوقة، يعاد «تغليفها» مجددا لتقدم على أنها وعود أنجزت من قبل الحكومات عبر أنظمة وقوانين ومناهج في ظاهرها «تمنح» هذه الحقوق بوصفها مكتسبات، ولكن في واقع الأمر هي تجرد الناس منها تماما.. فلليوم من الصعب وضع وصف دقيق يشرح ويفسر مفردات بالغة الأهمية مثل: العدالة والحرية والكرامة والأمن والمساواة، ولكن إذا عجزت اللغة عن تقديم ذلك بالمفردات اللغوية، فهنا يجب أن يأتي دور القانونيين من قضاة ومحامين لسن التشريعات التي تحقق ذلك الأمر حقيقة بشكل وأسلوب يلمسه المواطن فعلا، وهي المسألة الغائبة تماما اليوم عن العالم العربي.

والمواطن العربي في هذه الدول يستيقظ كل يوم وهو بانتظار «كَفّ» لا يعلم من أين سيأتيه، ويعلم أن النظام والقانون لا يحميانه، وأن كل النصوص الموجودة في الأنظمة رمادية مهلهلة لتجاوزها، والتجاوز وضع لثغرات تخدم الفساد ومن يعيش عليه، لإدراكه أن الأنظمة والقوانين مهما كانت متمكنة ومتكاملة فهي لا تطبق بالسوية على الكل ولا ينال الفائدة منها المجتمع بأسره؛ بل إنها بذلك الوضع الهزيل أداة سخط وليست أداة علاج وتطوير وبناء مجتمعي.. الكلمات هي بدايات، والبدايات هي اللبنات التي تبنى بها الأمم والحضارات.

الثورة الفرنسية المهمة بنيت على ثلاث كلمات فقط ألهمت العالم الغربي بأسره؛ ثلاث كلمات كتب لها الخلود: «حرية، عدالة، أخوة».. اختصرت الكلمات الثلاث هذه مطالب أمة بأكملها، وصارت الروح الملهمة للدستور والقانون والقضاء والمؤسسات التي خرجت من رحمها.

الربيع العربي ونتاجه حتى اللحظة لم يخاطب حقيقة الشعارات التي رفعت، فالمسألة أولا وأخيرا إحساس الرجل البسيط بحريته وكرامته وأمنه، وإحساسه بالعدالة، وكلها تقع تحت باقة «الحقوق» التي يستحقها بصفته مواطنا في العقد الاجتماعي المهم بينه وبين دولته، لأن الدول الحديثة تبنى بين مؤسسات ومواطنين، وليس بين أسياد وعبيد.. وحتى يتم الاستيعاب العميق والدقيق والكامل لهذا الفهم، سيجري التعامل مع كل ما رفع من كلمات وشعارات بالأسلوب «الدوني»، الذي وصف هذا الأمر بأنهم «شوية عيال رافعين ورق وعليه كلمات هُمّا مش فاهمين معناها»، ويكون، بالتالي، قد ضاعت فرصة ذهبية لردم الفجوة تلك الموجودة اليوم بين الحكومات والشعوب بدلا من زيادتها بشكل خطير.. إنها حقا «كلمات»، ولكن، بالفعل، «ليست كالكلمات».
نقلا عن جريدة الشرق الاوسط
الجريدة الرسمية