رئيس التحرير
عصام كامل

للإسكندرية وجوه أخرى

كنت أجلس على أحد المقاهي بمدينة الإسكندرية حينما اخترق الصمت أصوات مرتفعة صادرة من طاولة قريبة انهمك أصحابها في نقاش حاد يشبه مباريات المصارعة بشأن إذا كان يجوز للمسلم تهنئة المسيحي بعيد الميلاد أم لا؟.. وبعيدًا عن حالة الضجر التي انتابتني لطرح هذا الاستفسار باستمرار كلما اقتربت مناسبة دينية للمسيحيين على الرغم من وضوح الإجابة بأنه لا مانع شرعي في التهنئة في أي مناسبة وأن التحريم يخرج فقط من أفواه المتشددين..


لكن الملاحظ أن تكرار السؤال يصاحبه تأييد من قطاع يؤمن بجواز عدم التهنئة معبرا بذلك عن رؤيته ومنهجه المتطرف في التعامل مع الآخر المختلف دينيا.

ناظر الدواوين والسوشيال ميديا

إلا إنني تساءلت بدوري عن السبب الذي جعل بعض أبناء هذه المدينة العريقة يتحدثون في هذا النقاش بما يؤكد أن قطاع من أبنائها ساهم في تحويلها من مدينة مزدهرة كانت قبلة العلماء إلى مدينة تحتضر انتظارا لقبلة الحياة.

عندها تذكرت ملامح عن تاريخ الإسكندرية في عصورها الذهبية حينما أضافت إلى البشرية وسبقت العالم، فقد توصل العالم السكندري اريستارخوس في القرن الثالث قبل الميلاد أن الشمس هي مركز الكون وليس الأرض ليسبق بحديثه العالم كوبرنيكوس بأكثر من ألف وثمانمائة عام.

كما سبقت الإسكندرية القديمة العالم في العديد من الاكتشافات والاختراعات، وكادت أن ينطلق منها الثورة الصناعية في القرن الميلادي الأول مع اختراع العالم "هيرون السكندري" لآلة تعمل بطاقة البخار لولا اقتصار توظيف اختراعه المهم في فتح وإغلاق أبواب المعابد وتحريك تماثيل الآلهة دون تدخل بشري بدلًا من استخدام اختراعه في الحياة الواقعية.

ثلاثي أضواء "السوشيال ميديا"

ومن الاختراعات إلى الطب كانت الأسبقية أيضًا للإسكندرية القديمة التي درس علمائها لأطباء اليونان بعد أن تركت الحضارة المصرية القديمة بصماتها في صورة برديات تحتوى على أوصاف للأمراض وطرق علاجها مثل بردية إيبرس كذلك انجازات طبية مثل اكتشاف الطبيب السكندري "هيروفيلوس" الدورة الدموية قبل الطبيب الإنجليزي هارفي الذي أعاد اكتشافها في القرن السابع عشر.

كان السبب في فترات ازدهار المدينة راجع لاهتمام القائمين على إدارتها بانتعاش العلم والأدب والفن ليظهر وقتها علماء مثل "ايرتوسثينيس" و"بطليموس السكندري" و"فيثاغورث" و"ارشيميدس". أما عندما تخلت المدينة عن احترامها للعلماء فقد غرقت لقرون طويلة في التعصب والجهل والانحدار حتى أصبح المجال يضيق على وجود العلماء والمفكرين بينما يتسع للمشعوذين وتجار الدين..

عانت الإسكندرية من حركة "مد" متشددة لعقود اجتاحتها حتى تشبعت المدينة انتظارا لحركة "جزر" تعصف بهذه التيارات المتطرفة وتبعدها لكي تعود المدينة لعصرها الذهبي.
الجريدة الرسمية