رئيس التحرير
عصام كامل

المسئولية الاجتماعية لرجال الأعمال في زمن كورونا!

ليست المرة الأولى التي أتحدث فيها عن مفهوم المسئولية الاجتماعية، وعندما كنت أتحدث عنه في الماضي سواء عبر دراساتي وأبحاثي الأكاديمية أو عبر مقالاتي الصحفية كنت أركز دائما على المسؤولية الاجتماعية للدولة، باعتبارها فريضة غائبة في غالبية المجتمعات الرأسمالية.. 

 

لكن الكارثة الأكبر كانت في المجتمعات الرأسمالية التابعة والتي يشكل مجتمعنا المصري نموذجا لها منذ مطلع السبعينيات من القرن العشرين، حين قرر الرئيس السادات التخلي عن النموذج الاشتراكي أو نموذج التنمية المستقلة للدولة الوطنية، الذي تظهر فيه بصورة جلية المسئولية الاجتماعية للدولة،  لصالح نموذج الانفتاح الاقتصادي على الغرب الرأسمالي.

 

وهناك تعريفات متعددة لمفهوم المسئولية الإجتماعية للدولة حيث أتفق على أنه تبني سياسات وإتخاذ قرارات وإتباع توجهات سلوكية تستجيب لأهداف وقيم مرغوب فيها في المجتمع، وهناك من توسع في تعريف المسئولية الاجتماعية للدولة لتشمل المسؤولية الاقتصادية والقانونية والأخلاقية والإحسان العمومي، وهناك من يصف المسئولية الاجتماعية للدولة بأنها دولة الرعاية الاجتماعية التي تقف في وجه تغول السوق المتحررة من كل القيود.

 

اقرأ أيضا: مصر تتعامل مع أمنها القومي بوعي وهدوء!

 

والمسئولية الاجتماعية للدولة بحكم تعقد وتشابك مؤسساتها يمتد إلى قدرة الدولة على حل المشاكل المترتبة على تطبيق السياسات العامة في مختلف مناحي الحياة، ومواجهة المخاطر الكبرى والتهديدات الداخلية والخارجية، ويمكن حصر المسئولية الاجتماعية للدولة إجرائيا في قدرتها على إصدار القوانين والتشريعات التي تصب في مصلحة الغالبية المطلقة من المواطنين،  وقدرتها على القيام بمشروعات يستفيد منها الجزء الأكبر من السكان وخاصة محدودي الدخل في مجالات التعليم والصحة والسكن وغيرها.. 

 

وقدرتها على مواجهة الغزو الثقافي والفكري والإعلامي ومعالجة الاضطرابات الأمنية وتجاوز سياسات الحصار المفروضة عليها، وحل الأزمات المختلفة ومواجهة العدوان العسكري على أراضيها، وقدرتها على تطوير مؤسساتها وتنمية المجتمع والاستجابة لتطلعات مواطنيها،  وتبنيها لسياسات اقتصادية مستقلة تقلل من التبعية لدول أخرى وتخفف مديونيتها الخارجية التي يرثها المواطنين على المدى الطويل.. 

 

واعتمادها الشفافية في اتخاذ القرارات وقيادة السياسات العامة وتنفيذها وتقييمها في شتى أبعادها، وقدرتها على توعية المواطن بأهمية المسؤولية الاجتماعية الفردية والإستعداد للقيام بنصيبه في تحقيق المصلحة العامة للمجتمع، وقدرتها على إنهاء مظاهر الفساد في مؤسساتها الحكومية والخاصة وتعميم ثقافة المسؤولية الاجتماعية لدى رجال الأعمال وتنمية ثقافة العطاء. 

 

  اقرأ أيضا: المقاومة هى الحل في مواجهة صفقة القرن!  

 

ووفقا لهذا الدور المنوط للدولة وبناءً على مسئوليتها الاجتماعية تجاه مواطنيها تتحرك الدول على الخريطة العالمية بمسافات متفاوتة، بعيدا عن أو بالقرب من النموذج الذي رسمه العلماء والباحثين في مجال العلوم السياسية، وبالطبع مجتمعاتنا العربية ليست مستثناه من ذلك، وبالتالي يمكننا الحكم عليها وفقا لقربها وبعدها عن النموذج المرسوم.. 

 

لكن لابد أن نضع في اعتبارنا أن الصياغات النظرية المتعلقة بالمسئولية الاجتماعية للدولة قد صكت في سياقات الخبرة التاريخية والسياسية والاقتصادية الغربية والليبرالية على وجه الخصوص، والتي تنهض على السوق الحر أو باختصار خبرة المجتمعات الرأسمالية، ومن ثم فإن محاولة تطبيقها على مجتمعاتنا العربية دون مراعاة الفروق الاجتماعية والبنائية والخبرة التاريخية المغايرة للمجتمعات العربية قد يوقعنا في أخطاء ومقارنات ظالمة.

 

ومع اجتياح أزمة كورونا للعالم شاهدنا الوجه الحضاري والإنساني للمجتمعات التي تتسع فيها دائرة المسئولية الاجتماعية للدولة، مثلما هو حال الدولة الصينية التي استطاعت السيطرة على الوباء من خلال المسئولية الاجتماعية للدولة منفردة، بعيدا عن أي أطراف أخرى داخل المجتمع.. 

 

فالمسئولية الاجتماعية للدولة تجاه مواطنيها في هذا النموذج التنموي حتم عليها القيام بكافة الإجراءات الوقائية والعلاجية، دون أن تحمل المواطن أدنى مسئولية أو أعباء اقتصادية، فقط عليه أن يلتزم بالحجر الصحي في منزله دون أن يفكر كيف سيلبي احتياجاته الحياتية الضرورية، فهناك دولة مسئولة عن تأمين كل ذلك.

 

 اقرأ أيضا: أمريكا تستهدف أحرار العالم!

 

وفي المقابل برز الوجه القبيح وغير الإنساني لنموذج الدولة الرأسمالية التى تخلت عن جزء كبير من مسئوليتها الاجتماعية تجاه مواطنيها بحجة إطلاق العنان للحرية الاقتصادية والفردية،  مثلما هو حال الولايات المتحدة الأمريكية، فعندما اجتاح الوباء عجزت الدولة عن توفير متطلبات الوقاية فلم تجد أمامها من سبيل إلا الرأسمالية الكبيرة، فطلبت منها المساعدة لكنها بكل أنانية رفضت أن تستجب..

 

هنا وضعت الدولة في مآزق شديد فبدأت البحث في دفاترها القديمة لتخرج قانون الإنتاج الدفاعي الصادر عام 1950، والذي يجبر القطاع الخاص على تلبية الإحتياجات العامة في وقت الخطر.

 

أما الوضع في مجتمعاتنا التي اختارت نموذج الرأسمالية التابعة والذي أدى إلى اتجاه الدولة للتخلي تدريجيا عن مسئوليتها الاجتماعية تجاه مواطنيها، في مقابل إتاحة الفرصة أمام القطاع الخاص ليتمدد ويتوغل ويسيطر على جزء كبير من الاقتصاد الوطني،  دون وضع أي تشريعات ملزمة للقطاع الخاص على تلبية الإحتياجات العامة في وقت الخطر.. 

 

وعلى مدار ما يقرب من أربعة عقود تشكلت داخل المجتمع المصري مجموعة من السماسرة الذين يعملون لصالح دول المركز الرأسمالي، والذين أطلقوا على أنفسهم زوراً وبهتاناً مصطلح رجال الأعمال.

 

اقرأ أيضا: الحرب الباردة تتحول لنيران ستحرق العالم!

 

وفي كل الأزمات التي مرت على المجتمع المصري وآخرها أزمة كورونا كانت الدولة الوطنية التي مازالت تحتفظ بمخزون أخلاقي ومسئولية اجتماعية تجاه مواطنيها، تحاول جاهدة تسخير كافة إمكانياتها رغم محدوديتها في ظل نموذج تنموي رأسمالي تابع لتلبية الاحتياجات العامة للمواطنين،  في الوقت الذي لم تظهر أي مسئولية اجتماعية لرجال الأعمال المزعومين..

 

بل برزت بجاحة البعض بأن يطلبوا مساعدة من الدولة، مع أن بحثا بسيطا عن الأصول الاجتماعية لهؤلاء السماسرة سيثبت أن ثرواتهم المتضخمة ليست نتاج تطور رأسمالي طبيعي، بل جاء عبر عمليات أقل ما يمكن أن يطلق عليها أنها مشبوهة.

 

لذلك لابد أن تجد الدولة صيغة لإجبار هؤلاء السماسرة على تلبية الاحتياجات العامة وقت الخطر، فلسنا أقل من الولايات المتحدة الأمريكية النموذج الأعلى للرأسمالية العالمية،  وليكن تشريع يصدر فوراً لوضع هذه الأموال المشبوهة تحت تصرف الدولة، لتتمكن من القيام بمسئوليتها الاجتماعية كاملة تجاه مواطنيها في هذه الأزمة الطاحنة، التي تضع الغالبية العظمى من المصريين الذين يعيشون يوما بيوم أمام خيارين إما الموت بكورونا أو الموت جوعاً، اللهم بلغت اللهم فاشهد.      

 

الجريدة الرسمية