رئيس التحرير
عصام كامل

الطرح الملعون! (2)

توقفنا فى حكايتنا عند قرار "عم حسين النُص" بألا يغادر جزيرته إلا برأس المسحور، ونكمل فى السطور التالية:  وبعد أن طال به العمر.. وودع الشباب القلب والجسد.. أدرك "عم حسين" أنه قد خسر رصيده من العمر فى مطاردة الوهم.. حفر قبره فى عشته الصغيرة التى بناها من الطين.. وقال تلك مقبرة أبنيها.. إن لم تكن له فإنها لي!

 

 ورويداً رويداً.. بدأت مياه النهر تحاصر جزيرته المنسية أو المرصودة على حد تعبيره.. لتأكل أمواج النهر أجزاءً منها يوما بعد يوم.. ورغم أن تلك الظاهرة كانت مصدراً لتعاسةِ كل بسطاء القرية.. بيد أنها كانت بالنسبة لعم حسين مصدراً للفرح، فكان حين يتحدث يقول: أوشكت الرحلة على النهاية.. وأوشك النيل أن يسترد أمانته!

 

كنا حين نسأله عن عمره الذى قضاه ملفوفا فى قطعةِ من "الخِيش" يقول لا أعرف إذا ما أنا قد عبرت العمر بإرادتي، أم أن العمر هو الذى انفرط دون أن أحس!

 

اقرأ أيضا: البسطاء.. وحكايا النهر!

 

أعتقد أن الوصول إلى الشط مرهون بطبيعة الهدف الذى خلقنا من أجله.. ومن أجله ربما نموت.. مُوجعٌ أن تربط عمرك بثابتٍ لا يتحرك.. أو تربطه بمُتحركٍ "كسرابٍ" لا يمكنك الإمساك به.. أو الوصول إليه!

 

مُوجعٌ أن تَرهِنَ سعادَتك بخيط ٍمن الدُخَان.. الكون فسيح كجزيرتنا.. لماذا ضيقناه فى صراعنا مع الوهم.. لماذا اختزلنا الشر فى هيئة مسحور، رسمناه من وحى أخيلتنا التى أعياها الخوف، دون أن نفكر فى كنيته.. وكيف لإنسان أن يتحمل العيش فى قاع النهر؟!

 

لقد ضيعت العمر فى انتظار مارد لم يأت.. متأهباً لمعركة ليس لها موعد.. وعدوٍ رسمت ملامحه من وحي الخيال.. وفى مطاردة وَهمٍ لم أتحصل عليه..غافلا عن أرضي التى يسرقها جفاف النهر.. تُرى يا ولدي أهكذا يكون العقل! لقد علمتني تجاربي المريرة بأنه لا حياة لرجلٍ يحملُ على ظهره ثأر! داووا قلوبكم بـ"الحب" فإن الحب "صدقة" العاشقين و"زكاة" الغلابة والمساكين!

 

اقرأ أيضا: بائعِةُ الدُوُد!

 

ربما كان المسحور هو عدوه الأول.. لكنه لم يعد عدوه الوحيد.. فقد سبقه فى العداوة انحسار ماء النهر.. رغم قناعته الكبيرة بأن "المسحور" شخص يستحق العداء.. ورغم منطقية العداء الذى كان بينهما.. إلا أننى من البداية كنت على يقين بأن كلاهما ضحية لظروف استثنائية. فكلاهما ضحية للشر الساكن فى قلب البشر.. فإذا كان السحر قد سرق من المسحور عقله.. فإن ثقافة الثأر قد سرقت من عم حسين عمره!

 

فلم أكن وحدى الذى تعاطف مع المسحور ولم أره كغيري شبحا يهدد حياة البسطاء، بقدر ما كنت أراه ضحية لبراكين الحقد المخبأة خلف ابتسامات بعض البشر.. فحب الناس لعمى حسين النص جعلهم يتعاطفون مع المسحور، ذلك الرجل الطيب الذى ارتدى خيشة المساحير.. وتمثل فى هيئتهم بدرجة جعلتهم لا يميزون بين الاثنين!

 

ومن ثم فلم يعد المسحور يخيف بسطاء القرية كما كان.. ولم تعد قضية المسحور وحتمية الخلاص منه هو هدفهم الأول.. لقد صار الفيضان السنوي هو شغلهم الشغل.. لا أستطيع أن أنسى الكلمات التى كان يدندن بها عم حسين النص على حماره الأزعر فى جزيرته المرصودة (طالع من الصبح بدري.. والنيل بيسابق خُطايا.. يفيض يغرق جزاير.. يهبط أموت فى حشايا).

 

اقرأ أيضا: كاتم أسرار الموتى

 

فحين كان يفيض ماء النهر يأتى على قراريطهم الخصبة القليلة ليغرقها.. تلك القراريط دفع البسطاء ثمنها من دمائهم الغالية.. أما عم حسين النُص فقد كانت له رؤية مغايرة!

 

سألته يوماً ما الذى يُخِيفُك يا عم حسين؟ فأجابني فى هلعٍ شديد: الأشهر التى لا يفيض فيها النهر؟ أتعلم يا ولد ماذا يعنيه انحسار النهر؟ يعنى أرضا تبور.. وبطون جوعى.. وسيول من الدماء لا تجف! النيل يا ولدى كالجسد.. لا يصح حين يجف الدم الذى في داخله!

 

لقد كانت لحظات سعادته تتجلى فى شم النسيم.. حين يفيض النهر وتتجدد مياهه فى يسر.. كنا نهيم إليه من كل مكان.. نجلس على نجيلتهِ الخضراء.. نشرب الشاي المصنوع على أعواد العنب الجافة، أو على سيقان اليوسفي الناشفة.. شاي بطعم النسيم!

 

اقرأ أيضا: أسطورة الفردوس!

 

لم نكن نفرق بين رائحة النهر وعرق عم حسين.. كما أن بشرته لم تكن  تختلف كثيرا عن لون النهر.. حاورته ذات مرة فى علاقته بالسماء.. فقال: فى السقف الذى يحميني من غضب الشياطين.. فقلت له: وما تريد من الله يا عم حسين.. قال: أريد أن أسأله.. لماذا اعتقلني القدر فى كراهية مسحور لم أره.. فقلت له: لا يُسئل إلا مذنب يا عم حسين.. والله تعالى لا يذنب فى حق البشر..

 

فقال: لكنني أنا الذى أخطأت فى حق الله؛ حين سلمت قلبي للمسحور الذى يكرهه.. وسلمت عقلي للثأر.. فقلت له: لكن الله تسامح يا عم حسين!

 

لم يكن عم حسين بعيدا عن سؤالي الذى رددته كثيراً على عجائز القرية.. متى تموت يا عم حسين.. أجابني حسين فى عجل: سأموت حين يسترد النهر أمانته.. قلت له: ومتى؟ قال: حين يبتلع النهر الجزيرة.. فيقي أحبابي من "الطرح الملعون"!

 

اقرأ أيضا: عشة العمة محضية

 

شاخت قطعة الخيش التى طوقت ذلك الجسد النحيل.. كما شاخت روحه.. كان دائم السير على شاطئ النهر.. يتوكأ على عصاه الحديدية المدببة.. زارعا عينيه  فى الماء.. كأنه يفتش عن شيء مفقود.. لا يحلو له الجلوس إلا على حافة القبر الذى حفره داخل عشته الصغيرة.. ولا يرتاح للنوم سوى فيه.. ولا تغمض له عين إلا حين يضع رأسه على الكفن!

 

كان لا يغير قطعة الخيش البالية التى تطوق جسده سوى فى ليلة شم النسيم.. وكأنه كان يشارك البسطاء الاحتفال بماء النهر الجديد.. وذات ليلة من الليالى التى تصالح فيها فيضان النهر مع رياح الخمسين.. جلس "عم حسين" على حافة مقبرته ملفوفا بالكفن بعد أن توضأ استعدادا لصلاة الفجر..

 

فاض النيل فأغرق ما تبقى من جزيرته وأسقطت رياح الخمسين نخلته العجوز فوقع عم حسين فى مقبرته ميتا.. لكن أكذوبة المسحور لا تزال باقية.. تشهد على عمق علاقة البسطاء بالنهر.. وتُكرِسُ ثقافة صناعة أشباح الرعب!

Sopicce2@yahoo.com

 

الجريدة الرسمية