رئيس التحرير
عصام كامل

مدرسة السد العالي المهنية

مع بداية هذا العام إحتفلت  مصر بالذكرى الـ٦٠ على وضع حجر الأساس لإنشاء السد العالى فى 9 يناير 1960 وافتتاحه فى نفس الشهر 15 يناير سنة 1971، ليسجل التاريخ بحروف من نور أعظم مشروع هندسى فى القرن العشرين من الناحية المعمارية والهندسية طبقاً لتقرير الهيئة الدولية للسدود والمشروعات الكبرى عام 2010، والذى فضلته الهيئة على 122 مشروعاً عالمياً منها نفق المانش الذى يربط بين بريطانيا وفرنسا، ومطار شك لاب كول فى هونج كونج..

 

لما حققه المشروع من فائدة تعود على الجنس البشرى وجدواه الأقتصادية، وعدم الإضرار بالبيئة المحيطة، فقد أقيم السد لحماية مصر من الفيضانات المائية التى كانت تفيض على البلاد وتغرق مساحات واسعة فيها، أو تضيع سدى فى البحر الأبيض المتوسط.

 

وإذا ما قارنا بين السد العالى وسدود العالم أجمع سواء الخرسانية منها أو الركامية –لوجدنا أن السد العالى يفوقها جميعاً فى سعة التخزين وفى كمية الكهرباء المتولدة، مع أن السد العالى ليس أعلى السدود العالمية وأكبرها حجماً، وهذا هو سر عظمة السد العالى، فالعمل الهندسى الناجح هو الذى يعطى نتائج أفضل بتكاليف أقل، وشارك في هذه الملحمة الوطنية الكبيرة 37 ألف مهندس وفني وعامل، كونوا فيما بعد مدرسة هندسية انتشرت في ربوع مصر، ومنها أخذ اللواء باقى زكى فكرة تدمير خط بارليف بخراطيم المياه..

 

وتضافرت مدرستي الهندسة والري المصريتين وعندما قرر ناصر إنشاء وزارة السد العالى إختار صدقى سليمان، فكان هو وزيرها الأول والأخير، وسأله ناصر عما يحتاج إليه لإنقاذ الموقف، طلب سليمان شيئين، هما صلاحيات رئيس جمهورية وخط تليفون مباشر إلى مكتب رئيس الجمهورية.

 

اقرأ ايضا : الوصايا العشر لمواجهة سد النهضة

 

وهجر صدقى سليمان مكتبه وبقى في أرض الميدان يستقبل الشكاوى بنفسه، ويتخذ فيها قرارات على الهواء وهو يقف وسط قناة الأنفاق، أو في مجرى التحويل أو على مقعد قيادة كراكة، أصدر قرارات بانتداب ضباط مهندسين، وضم من أنهى خدمة التجنيد إلى العمل، وإقامة معهد يقدم دورات تدريبية على العمل في السد، وقرر بأن تكون سنة الدراسة الأخيرة لطلبة الدبلوم الصناعى في أسوان على هامش العمل في السد، وكان المهندس حسب الله الكفراوي وزير الاسكان والتعمير الاسبق من مدرسة السد، وكذلك عثمان احمد عثمان.

 

كان السد العالي حدثا فريدا في حياة من عملوا في الموقع، وبلغ عددهم 34 ألفا، إضافة إلى 1700 خبير روسي، وفي حياة النهر الذي لم نعد نرى دمار فيضانه وغرق الأراضي ابتداء من 1964، وفي واقع الحياة على الأرض حتى الآن وإلى مدى غير منظور.

 

طوفان البشر الذي اجتاح مدينة صغيرة لا يزيد عدد سكانها على 35 ألف نسمة جعل المدينة خلية نحل لا تهدأ. تحولت مصائر من لم يكن لديهم بطاقات شخصية، وحين راحوا يستخرجونها كان البعض منهم له سابقة قانونية، ولحاجة العمل إلى عمالة كثيفة، أصدر رئيس الجمهورية قرارا بألا يعتد بالسابقة الأولى.

 

وباتساع حركة التعليم المجاني تعلم أبناؤهم وأصبحوا محامين ومهندسين، وارتقوا إلى مناصب عليا في الدولة. أصبح العامل الزراعي ابن المدينة واكتسب صفاتها وتعايش مع سلوكها، ونسي جريمته الأولى ليصبح مواطنا كامل الأهلية. وتشكلت مدرسة هندسية مهنية إنتشرت في ربوع مصر.

 

واقرأ ايضا : الدولة العميقة فى مصر

 

وهكذا كان مشروع السد العالى مشروعا قوميا بمعنى الكلمة، لكنه كان يفوق إمكانيات مصر فى التمويل والقدرة التكنولوجية، واستخدم فى بنائه 43 مليون متر مكعب من الصخور والرمال، وهو من أعظم السدود الركامية فى العالم، ويبلغ طوله 3820 متراً، منها 520 متراً مسافة بين ضفتى النهر والباقى على شكل جناحين، الأيمن بالضفة الشرقية بطول 2550 متراً، والأيسر بالضفة الغربية بطول 750 متراً، وعرضه عند القاع 980 متراً ليتدرج على هيئة هرم حتى يصل عند القمة إلى 40 متراً ويبلغ ارتفاع السد 111 متراً فوق قاع النهر بين منسوبى 85 و196 متراً.

 

وشاركت فى بناء السد 3 جهات، الهيئة العامة لبناء السد العالى، وشركة مصر لأعمال الأسمنت المسلح، وشركة المقاولون العرب (عثمان أحمد عثمان) بمعاونة خبراء ومهندسين وفنيين من الاتحاد السوفيتى مع المهندسين المصريين، إلى جانب مساهمة القوات المسلحة فى دعم الإمدادات الطبية والمعدات والتموين، وكذلك وزارة النقل التى قامت بإنشاء خط سكة حديد لنقل العمال والمعدات إلى الموقع، كما تولت شركات المقاولات إنشاء المقار السكنية للعاملين والمرافق وشبكات الطرق. وتلك حكاية أخرى عندما تعمل مصر بروح الفريق.

 

الجريدة الرسمية